هذا النمط من الحوار لا نريده

منذ أسابيع دار حوار بين الدكتور حمزة السالم ومحمد بن عبد اللطيف آل الشيخ من جانب والدكتور محمد النجيمي من الجانب الآخر, وكان موضوع الحوار «مدى شرعية جريان الربا في الأوراق النقدية أسوة بالذهب والفضة», وكنت وكثيرون غيري نتوخى حوارا علميا شرعيا اقتصادياً نستفيد به ونتثقف في هذا الجانب المهم من عقيدتنا, ونتعلم من المتحاورين وهم بلا شك ممن يثري موضوعاً كهذا برأيه وبحثه فينفع البلاد والعباد, ولكن يبدو أن الحوار العلمي المتوخى قد خرج عن سكوته وتاه في بيداء التجريح والتجهيل والاتهام بالغرضية, وفقدنا نحن موضوعية المتحاورين والثقة بأن يخرجوا لناعلما نافعا.
الحوار هو عملية ذهنية تقوم على تلقي المختلف من المفاهيم وتفكيك مكوناته, التي تتمثل بمصداقية المصدر, وعلاقة الموضوع, والتأسيس المشروعي للفكرة الأساس, وبنائية المفهوم المنطقية, وإمكانية التطبيق, ومن ثم خلق مقارنة ومقاربة مع ما هو مستودع من مسلمات فكرية وما هو مطروح كفكر مختلف والبحث في ثنايا ذلك عن المتماثل, والجهد خلال عملية الحوار على إبراز نقاط الخلاف في المفاهيم وتطويعها بالنقاش العلمي لتتماثل, فإن لم يحدث ذلك لدى المتحاورين, بات عليهم إيجاد وسيلة لتغليف ذلك الخلاف بغلاف مقبول للطرفين, بحيث يبقى الخلاف قليل التأثير في مجمل العملية الحوارية العامة, في حين يتم بين الحين والآخر فك ذلك المغلف من الحوار المختلف عليه في ضوء بروز مفاهيم أو حقائق جديدة قد تقلل من المختلف عليه, وتتكرر العملية الحوارية في كل مرة إلى أن يقل حجم المختلف عليه مع كل مرة يتم فيها الحوار ويتناهى في التأثير, هذا هو الحوار الذي يؤدي إلى نتيجة إيجابية. أما الحوار الذي رأينا مثالاً له بين الدكتور حمزة السالم ومحمد بن عبد اللطيف آل الشيخ من جانب والدكتور محمد النجيمي من جانب فهو الحوار السلبي الذي يفقد المتحاورين موضوعيتهم ويشق صف المتلقين إلى موال ومضاد, وهو بلا شك حوار لا نريده ولا ينفعنا ويسيء إليهم.
لا شك أن كلا من الدكتور السالم ومحمد آل الشيخ والدكتور النجيمي بالغ في علم نحن في حاجة إلى تلقيه والتثقف به, وكل منهم لا يستحق أيا من النعوت الظالمة التي ساقها إليه الطرف الآخر, وكل منهم على قناعة بعلم وفهم كل منهم, ولكن كل منهم في هذا الحوار خلع ثوب البحث والاستهداء بضال الحكمة, ولبس ثوب الذاتية والدفاع عن حصون الأنا. وكان الأحرى بهم تلمس الحجة في قول الآخر واعتبار قول كل منهم حقا يحتمل الخطأ, والاعتقاد بأن كلا منهم مجتهد مجاهد في سبيل صيانة العقيدة. لذا في هذا المقال لا بد من عتب على الأساتذة الأفاضل, فكيف يقبل أي منهم أن يكون في هذا الجدل وهم ممن يعلم ويقتدى بهم؟ وعتب على الصحف التي تنشر هذا الجدل الذي ينزلق بالضرب تحت الحزام بغير موضوعية فتنشر ثقافة نشر الغسيل والتعدي بالقول الجارح, وعتب علينا نحن المتلقين كيف نقبل من مثقفينا وعلمائنا هذا الأسلوب في الحوار, ونحن نلوم العوام من الناس أنهم تراشقوا بقبيح القول عند اختلافهم .
إن الأمن الفكري الذي بات مطلبا ملحا, انطلق من الهاجس بتنامي التصلب الفكري واعتماد مفكرين وتابعين لهم منهجا يقوم على إرهاب الطرف المخالف بحجة «تغيير المنكر» والهجوم الشخصي على مصدر كل فكرة أو اجتهاد, والتصدي بالعداوة والتمترس خلف تأويل أقوال السلف في تشريع وندب حرب المختلفين, وهو ما يمثل خطرا على الأمة, ويجد كثير من أتباع هذا النهج وقودا لتوجهاتهم في الحوارات النارية بين الباحثين عن حلول شرعية لمسائل معاصرة تقوم على قبول المعاصر ضمن مفاهيم شرعية جديدة والمتحفظين التقليديين الذين يميلون إلى تطويع المسائل المعاصرة لتناسب المفاهيم الشرعية القديمة, لذا يجدر بالمتحاورين في هذه المسائل توخي أن تؤخذ أقوالهم وتهجماتهم على بعض ذرائع لمن لا يملك القدرة على كبح الرغبة العدوانية لديه, وبالتالي يقعون في مظنة التأليب غير المباشر.
إن الحوار الذي يجب أن يشجع وينشر على صفحات الجرائد هو ذلك الذي يكون موضوعيا وعلميا في الاستشهاد والتأصيل ويستوحى من سياقاته احترام واضح بين المتحاورين وقبول لعلم كل منهم ومصداقيتهم حتى إن ظن أحدهم في الآخر التجديف والتحريف, عليه إبراز ذلك بأدب يحفظ حق الآخر في التبرير أو التصحيح, عندها يمكن لنا نحن المتلقين أن نستفيد ونفهم ونثق بما نتعلم من ذلك الحوار.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي