أخطر صور الفساد الإداري!!

يبذل خادم الحرمين الشريفين وولي العهد والنائب الثاني جهوداً كبيرة في موضوع مكافحة الفساد والحد منه، ويظهر ذلك جليا في تلك الجهود المباركة في استحداث الأنظمة، وإيجاد نقلة نوعية متقدمة في إصلاح معظم القطاعات، والحث المتواصل للارتقاء بمستوى الأداء لتقديم خدمة أفضل وفي مظاهر الشفافية وفتح قنوات واسعة للحوار، ودعم وتشجيع كل مخلص يخدم هذا البلد.
كما أسهمت المملكة في الجهود الدولية لمكافحة الفساد الإداري، بعد أن أدرك المجتمع الدولي أن الفساد يعد من أخطر المشكلات التي تواجهها الدول، حيث ينتشر في أجهزة الدولة بصورة سرية وغير واضحة، وهو الأساس في معظم جرائم الوظيفة العامة، ويخلق مستوى آخر للسلطة موازياً للمستوى الرسمي لها.
ولا يعني هذا أنه بالإمكان وضع الحلول الجذرية للقضاء على الفساد، وإنما تبني كل دولة تصوراتها واستراتيجياتها على مكافحة هذا الدواء الخطير، ويبقى دور المجتمع هو المهم. وهذا الفساد لا يتوقف على صوره الواضحة من متعاطي الرشوة أو التلاعب بالمال العام أو التحايل على الأنظمة أو إساءة استعمال السلطة أو غير ذلك من الأعمال المادية المباشرة، وإنما هناك صور من الفساد تظل أخطر لكنها غير ظاهرة، وقد تؤدي إلى كارثة حقيقية على المجتمع وعلى برامج التنمية ليس في نتائجها السلبية فقط وإنما من خلال الأسلوب والطريقة التي تمارس بها، إذ إنه مع قوة الأنظمة الوظيفية ومحاولة تحديثها فإن هذه الصور قد تمارس باسم النظام وعن طريقه، مما يضفي عليها صفة الشرعية وهذا هو مكمن الخطر عندما يفقد القرار أو الإجراء أهميته ويتم الانحراف به ضد المصلحة.
ولكي لا يذهب بنا الخيال بعيدا تعالوا نتأمل بعض الممارسات التي تتم في بعض الأجهزة من قبل بعض المسؤولين فيها عندما يستعملون صلاحياتهم التي منحها لهم النظام تبعاً لوظائفهم، هل كلها أو نسبة كبيرة منها تستخدم لخدمة أهداف الجهاز؟
أم يتم الانحراف بها أحياناً لخدمة أهداف خاصة؟
لقد وضع النظام الوظيفي مبدأ (الجدارة) كأساس للتعيين في الوظيفة العامة، وتدرجت مراحل التصنيف الوظيفي بكل أنواعه بأن تكون الكفاءة هي المعيار في شغل الوظيفة، فهل يتحقق ذلك فعلاً؟ ومن المسؤول عن تدني مستوى الأداء في بعض الأجهزة رغم قوة الإمكانات وزيادة الدعم؟ حتى وصل إلى قلب المعادلة، فكلما زاد الدعم قل الإنتاج، وكلما زاد عدد الموظفين زادت البيروقراطية توسعاً.
كان التركيز في معظم الأبحاث والدراسات على الجوانب الظاهرة للفساد وتم التأسيس لقاعدة العقاب على الصور الظاهرة منه، وأهملت الصورة الخفية رغم خطورتها وما تسببه من تقويض لبرامج التنمية.
الفساد يتحقق عندما يؤدى العمل بشكل مخالف للأنظمة ويتولد لدى الموظفين قناعات أن هذه الإجراءات تتم من أجل إرضاء هذا المسؤول أو للحد من عنفوانه!
إن الصورة الخطيرة التي أطرحها في هذا المقال هي تلك المتمثلة في «محاربة الكفاءات» ودفعهم لترك العمل بأي صورة كان ذلك، وما يثير القلق في هذا الجانب عندما تستغل الصلاحيات والأنظمة في خدمة الفساد تارة باسم المصلحة العامة وتارة باسم التطوير وتارة باسم الارتقاء بمستوى الأداء!!
هناك مسؤولون لا تهمهم سوى مصالحهم الخاصة فقط، ويدركون أن تحقيق هذه المصالح لا يمكن أن يتم في ظل وجود كفاءات قادرة على كشف الأخطاء، ولهذا يعمدون دائما إلى محاربة هذه الكفاءات وإبعادها حتى لو كان الإبعاد تحت ذريعة التحفيز.وهناك من يظهر سمات الصلاح ورفضه لكل أنواع الفساد المادية، لكنه بجهله وافتقاده أسلوب الإدارة يعرف أن قدراته لا تظهر إلا من خلال التقليل من شأن الآخرين، فيبدأ بمحاربة المتميزين من أجل أن يصبح هو محط الاهتمام، ويشعر أنه في خطر ولو أحسن من حوله التعامل معه، لأنه يتوقع أنهم يرفعون من أقدارهم مقارنة به، ولهذا يتبع أسلوب التحقير من شأنهم وعدم ثقته بقدراتهم، والخوف منهم، فيمارس الفساد من حيث لا يعلم.
وهناك من يجعل الآخرين في سباق بدون حوافز، ويحمل العاملين معه فوق طاقاتهم لتستمر سيطرته عليهم، ووضعهم أمام خيارين: إما الاستسلام وإما الرحيل!
إن المسؤول (الفاسد) يبحث دائما عن كبش فداء لأخطائه، ولا يتحقق له ذلك إلا عن طريق توجيه اللوم للآخرين على أخطائهم مهما كانت، ولهذا تجد بعضهم يقيم محاكمة خاصة لموظف تأخر عن الدوام نصف ساعة، بينما يغض الطرف عن موظف لا يعمل في الشهر إلا نصف ساعة فقط، ومثل هذا المسؤول لا يهتم بإيجاد إجابات للأسئلة، وإنما ينصب كل اهتمامه على أن يحتفظ بسيطرته، ولهذا يشعر نفسه بأنه يتوجب عليه أن يخلص نفسه من احتمالية أن يكون فاشلا ويرمي الفشل على من حوله!
لقد أدرك علماء القانون أن أهم أسباب الفساد الإداري ترتبط بضعف فكرة المصلحة العامة وما يرتبط بها من أهداف، وعندما تظهر حالات من الشعور بالقلق النفسي لدى الموظفين وعدم الإحساس بالأمن الوظيفي، ثم صاحب هذا إدراك منهم بمحدودية قدرات من يرأسهم أو يدير شؤونهم، وأن كل ما يملكه هذا المسؤول من مقومات المسؤولية إنما يرتكز على الاندفاع نحو إثبات الذات من خلال تصوير الآخرين بأنهم هم مكمن الخطأ وليس هو الخطأ نفسه.
هنا تتضرر المصلحة العامة من خلال ضعف فكرتها!
قد نجد العذر لبعض المسؤولين من ذوي النظرة الضيقة عندما يمارسون سلطتهم ضد بعض الموظفين، فيبعد هذا ويقرب ذاك، ويرضى عن هذا ويغضب من ذاك، وقد يكون الأمر مقبولا نوعا ما إذا ما بقي في حدوده الدنيا، أو وجدت أسباب تدعو إلى ذلك لكن أن يكون هذا هو السلوك العام فيجب التوقف طويلا!
لأن الأمر قد يصل إلى التأثير في برامج التنمية عندما يؤدي التضييق إلى تسرب الكفاءات، ولا سيما في هذه المرحلة التي تتوافر فيها فرص عمل أكبر في القطاع الخاص، فيفقد الجهاز الحكومي كفاءات لا يمكن تعويضها في الطب وفي الهندسة وفي التعليم العالي وفي القضاء وفي الاستشارات وفي الوظائف ذات الطابع التقني والحرفي، ما يضطر الجهاز إلى سد احتياجاته عن طريق الاستقدام من الخارج أو قبول كفاءات متدنية في التأهيل وفي القدرة العملية، مما يوجد مناخا ملائما للفساد.
نعم: هناك من يمارس مثل هذا الفساد عن طريق (تطفيش) العاملين ولا أعتقد أن ذلك يخفى على القارئ الكريم أو يحتاج إلى إثبات فهو مشاهد في أكثر من موقع ولو سألت بعض من تركوا الخدمة عن الأسباب التي دعتهم إلى ذلك لأدركت العجب العجاب!
إن عدم الشعور بالاستقرار الوظيفي، وتولي غير الأكفاء المناصب يسهم في خلق موجة من الاضطراب الإداري وتفشي ظاهرة الفساد في شتى صوره.
ذلك أن عدم الكفاءة يتسبب في قيام الموظف بعمله بصورة متدنية فيصبح بيئة خصبة للفساد.
كما أن قلة عدد الموظفين وتسرب الكفاءات مع زيادة حجم الأعمال يتسبب في كثرة الأخطاء واستغلال هذا الضغط لارتكاب حالات فساد.
إن المسؤول الذي يمارس مثل هذه الصور ويحارب القدرات المتميزة قد يبدو له أول الأمر أنه ينجح وأنه يسير باتجاه البناء الذاتي لنفسه، لكنه لا يدرك أنه بعمله هذا إنما يخنق نجاحه بيده، حيث لا يترك لنفسه مجالا للتخطيط للمستقبل وبالتالي - حتما- سيشعر بالإحباط عندما يرى أنه لم يبق معه إلا الدراويش!
من المسؤول عن هذا الأمر؟
وكيف يمكن محاربته والوقوف ضده؟
إذا كنا نريد الإجابة فعلا فلابد أن نعترف به أولا، لأن العلاج الصحيح يبدأ من التشخيص ومعرفة السبب، ولا بد أن ندرك أن محاربة الفساد لا تكون بالتنظير أو رفع الشعارات أو التظاهر بالمثالية، وإنما بالنوايا الصادقة والعمل الجاد المبني على تضافر الجهود والوضوح والتخلص من مرض الشعور بالنقص والتشكيك في الآخرين.
لينظر كل واحد في موقعه الوظيفي ويسأل نفسه: كم خسر هذا الجهاز الذي يعمل فيه من كفاءة متميزة؟ وما الأسباب؟
ثم يعيد طرح السؤال بصيغة أخرى: ما تأثير المصالح على مسار القرارات التي تتخذ؟ وكم عدد ضحايا مثل هذه القرارات؟
لا شك أن الإجابة ستكون مؤلمة جدا، وأن هناك من لا يستطيع الكلام!
كم من الأسئلة تدور في ذهنك عندما تفكر ولو مجرد تفكير في واقع الفساد الإداري، وأرجو ألا يدفعك ذلك إلى قلب هذه الصفحة وإقناع نفسك بأن الوضع أكبر مما يطرح، أو أن الإجابة لا تعني لك شيئا، أرجو أن تكون حذرا في ذلك لأن هذا الشعور هو الذي أدى إلى انتشار الفساد وجعل الفاسدين يمارسون فسادهم دون اكتراث عندما يرون من حولهم عاجزين حتى من تسجيل موقف!
علينا أن ندرك أن بعض صور الفساد لا يمكن القضاء عليها بالقبض أو المحاكمة أو العقاب، إذ لا يمكن ذلك أبدا، وأن الأنظمة الوظيفية مهما بلغت قوتها لا تستطيع أن تقف في وجه كل صور الفساد، لاستحالة ذلك بالطبع، لكن لا بد أن نعي أنه في الإمكان الحد من ذلك من خلال مواجهة هذه الحالات بالنقد العلني، لأن الفساد مهما بلغ حجمه وقوته فإنه يدرك أن عدوه اللدود هو العلانية، فهو لا يتم إلا في الظلام ويعرف أن النور يحرقه، ومعظم الفاسدين إنما يمارسون فسادهم وهم متسترون خلف وظائفهم ولهذا سميت جرائم الفساد بالجرائم الخفية.
وقفة: أعظم المصائب التي يتعرض لها أي مسؤول عندما لا يدرك أنه هو الخطأ أو يصر على تجاهل ذلك، بينما الآخرون ينتظرون ساعة الخلاص منه!!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي