كيف وصل بنا الحال إلى هذا الوضع السيئ في التعامل؟!
أتأمل كثيرا في تدهور مستوى التعامل بين الناس، وما وصل إليه من حال التردّي التي يغلب عليها التوّجس والخوف والريبة في الآخر، وافتراض سوء النية فيه، وانتزاع الثقة منه، فضلا عما أصبح يغلّف تعاملات اليوم المالية بين الناس، من بيع وشراء وإقراض واقتراض وتبادل تجاري، من حذر وطمع واستغلال، وغش وتدليس واختلاس، وأكل لأموال الناس بالباطل!.. وما تنشره الصحف المحلية من حالات من هذا القبيل، ما هو إلا النزر اليسير مما يجري على أرض الواقع، مما تعرفه الدوائر القضائية والأمنية، من حالات تهزّ الضمائر وتعصف بالبصائر!.. فضلا عن أن هناك حالات أخرى ظلت مكتومة في صدور أصحابها، ممن أحسنوا الظن بالآخرين، وبالغوا بالثقة فيهم، حتى غدا الأمن مفرطا، وحسن الظن مهملا، وهو ما قاد، أو كاد، إلى اختفاء الأمانة، والترحم على العهود والمواثيق، واندحار الصدق، والتنكر للقيم والأخلاق!..
وإنه لمن المؤسف حقا أن تجد هذه الصفات قد تأصلت واستقرت في المجتمعات المسلمة بعامة، وفي مجتمعنا المحلي في المملكة بخاصة!.. وأنه في الوقت الذي نتخلّى فيه عما أمرنا نبينا محمد، صلى الله عليه وسلم، به، حينما قال (الدين المعاملة) وكررها ثلاثا، نجد أن المجتمعات الأخرى غير المسلمة هي أكثر تطبيقا منا لها، بحيث انقلبت لدينا المفاهيم، وغطت مظاهر مثل الشكل واللباس، على المضمون والجوهر، وصارت هذه المظاهر هي ما يجلب التقدير والاحترام، حتى أغرت وأغوت أناسا كثرا بتغيير أشكالهم من تبديل أسبالهم!... ومن المحزن أن تلحظ أن المجتمعات غير المسلمة، عندما تحتك بها أو تتعامل معها، تجدها أكثر تمسكا بتعاليم ديننا منا فيما يتعلق بالصدق في المعاملة!..
هل أسوق أمثلة؟! إنها أكثر من أن تحصى، لكن هذه نماذج منها:
1- الدولة توسّع على المواطنين بالإقراض بواسطة العديد من جهات الإقراض، مختلفة الأهداف والأغراض، فمن صندوق التنمية العقارية، إلى صندوق التنمية الصناعية، فصندوق التنمية الزراعية، ثم بنك التسليف والادخار، إلخ.. والقرض يختلف عن الإعانة، إذ إنه يهدف إلى مساعدة المقترض على توفير تمويل ميسر، طويل الأجل، لتحقيق مشروع أو هدف يحسّن من مستوى معيشة المواطن، ويساعده على أن يكون عضوا فاعلا منتجا في مجتمعه، كما أن هناك هدفا آخر من القرض وهو تدويره لتمويل عدد آخر من المشاريع!... فإذا تأخر المقترض عن السداد أو ماطل فيه أو تخلى عنه نهائيا، تعطلت مجموعة من الأهداف، وحرم مواطنون آخرون من الاستفادة من الإقراض، ويتسبب هذا بالتالي في إعاقة التنمية الاقتصادية والاجتماعية والبشرية!..
2- جهات التمويل الأهلية مثل البنوك، وشركات التقسيط، يمكن أن تقوم بدور كبير لتنمية الإنسان من خلال توفير تمويل السكن أو السيارة أو المصنع أو الأثاث أو وحدة الإنتاج، فإذا كان المقترض لا يأبه بالالتزام الذي أخذه على نفسه بالوفاء به، أو تأخر أو ماطل فيه، فإن ذلك يعيق انسياب القروض إلى مجالات أخرى، فضلا عن أنه يؤدي إلى تشدد الجهة المقرضة في شروط الإقراض، وفي رفع هامش فائدتها منه، وهو ما يؤدي إلى تضرر الملتزمين الأوفياء، فضلا عن أنه يحد من التوسع في الإقراض الإنمائي، ويجعل المحتاجين يترددون في طلب التمويل لتصعيب سقف الشروط من قبل الجهة المقرضة!..
3- المساهمات الوهمية المختلفة التي يبتدعها أناس لجر المواطنين وراءهم والاستيلاء على مدخراتهم، ومنها المساهمات العقارية المتعثرة بسبب تعثر نية أصحابها من الأساس عند فتحها، وهم يبيتون المماطلة واستغلال أموال الناس لمصلحتهم!... وأول ما يلاحظ على صاحب المساهمة هو انتعاش مظهره، على حساب ذمته ومخبره، إذ بمجرد ما تغلق المساهمة حتى يطلع له ريش، وتبدو عليه علامات لم يكن يحلم بها من الثراء والبدانة من أكل أموال الناس، والتلاعب بها، وكم من مساهمة فتحت للمساهمين بأكثر مما اشتريت به، وكم من مساهمة بقيت معلقة عشرات السنين وصاحبها ينعم بالأموال الفائضة عن السعر الحقيقي للأرض!... وهناك مساهمات ألصقت في ظهور المساهمين قسرا، أي بيعت عليهم بأسعار خيالية لا خيار لهم فيها، لأنه ليس أمامهم إلا القبول أو الانتظار حتى يداهمهم الموت، وهو ما حصل للبعض فعلا!..، وأخيرا كم من مساهمات صفّيت وبقيت فيها أجزاء ومرافق لم يعد المساهمون يعرفون عنها شيئا، حيث اعتبرها صاحبها من المسكوت عنه، ولسان حاله يردد (يكفيهم ما وصلهم)!..
4- هناك فئة من التجار، ولا سيما في تجارة المواد الغذائية وأرزاق الناس، لا يكفيهم من الطمع استغلال حاجة الناس بزيادة أسعار المواد التي تعودوا عليها لعلمهم أنهم لا يستغنون عنها، بل يتمادون في ممارسات الغش بتغيير سمات الجودة والصلاحية لبعض البضائع، أو إعادة تكوينها وتعبئتها بأشكال ورموز أخرى، وهم من الذكاء بحيث يعلمون بأن صلاحية بعض المواد تمتد إلى ما بعد التاريخ المحدد لها، فيعمدون إلى استغلال هذه المعلومة، التي يستقونها عادة من مصدّر البضاعة أو مصنّعها!...
تعودت حينما أكتب أن أقدم الحلول والمقترحات لعلاج المشكلة التي أكتب عنها، بيد أنني أعترف هذه المرة بأنه ليس لدي مقترحات لإصلاح ما كتبت عنه، عدا مقترح واحد هو إصلاح الذمم والضمائر، فهل من سبيل إلى ذلك؟!..
والله من وراء القصد.