ظاهرة تفشي الباعة الجائلين «الأسباب - التبعات - الحلول»

بإمكان الشخص العادي أن يدرك النمو التدريجي والمخيف لظاهرة الباعة الجائلين، أو ما يسمى علمياً ''السوق غير الرسمي''. ولا شك أن استمرار تفشي هذه الظاهرة بشكل لافت له أسبابه وأيضاً تبعاته الباهظة اقتصادياً واجتماعياً وصحياً وبيئياً. لن نتوقف كثيراً عند تعريف هذه النوعية من الأنشطة، التي تتم في مجالات الإنتاج أو التوزيع أو الاستهلاك بعيداً عن سلطة القانون أو رقابة مؤسسات الدولة، وذلك بالاتجار في منتجات إما منتهية الصلاحية وإما فاقدة أبسط معايير الجودة، أو من منتجات ''بئر السلم'' بالغة الخطورة... إلخ.
وتكمن الخطورة في أنه لا يمكن اتخاذ القرار الاقتصادي السليم - سواء من قبل الدولة أو القطاع الخاص الرسمي - في ظل سيادة أوضاع عدم اليقين الناتجة عن انتشار الأنشطة غير الرسمية. فالأصل في الاقتصادات المتقدمة، هو أن تكون كافة الأنشطة الاقتصادية خاضعة لرقابة الدولة، وبناءً على ذلك تُتخذ القرارات الاستثمارية والتنظيمية المناسبة سواء من قبل الدولة أو القطاع الخاص، ومن هنا تأتي خطورة سيادة السوق غير الرسمي، الذي يختلف كلية عن السوق الرسمي Formal Market، وهو السوق الذي تتم فيه عمليات الإنتاج والاستهلاك والتوزيع أو التشغيل في إطار من رقابة مؤسسات الدولة.
وتجدر الإشارة إلى أن ظاهرة السوق غير الرسمية هي ظاهرة عالمية، وإن تفاوتت في عمقها من بلد لآخر. فوفقاً للدراسات القائمة يشكل السوق غير الرسمي نحو 40 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في الدول النامية والدول التي تمر بعملية تحول اقتصادي (60 في المائة في المتوسط في إفريقيا)، ونحو 16 في المائة في دول منظمة التعاون والتنمية. كما أنه وفقاً للدراسات الدولية، فإن ظاهرة السوق غير الرسمية أكثر انتشاراً في قطاعات الخدمات وخاصة قطاعي البناء والتجزئة (80 في المائة من العمالة مثلاً عمالة غير رسمية)، وقطع غيار السيارات وتصنيع الأغذية والأسمنت والحديد وبيع وتوزيع السلع الاستهلاكية وخاصة الإلكترونية وبرامج الكمبيوتر، على التوالي.
ويمكن إرجاع تفشي ظاهرة الباعة الجائلين والسوق غير الرسمي إلى عدد من العوامل الأساسية وهي:
1. ضعف المؤسسات القائمة على تطبيق القانون وضعف العقوبات التي تطبق على من يثبت تورطه في نشاط يدخل في إطار ما يسمى نشاطا غير رسمي، وضعف كفاءة المؤسسة القضائية، بحيث تستغرق القضايا المطروحة أمامها سنوات، وهو ما يضعف عملية الردع، الأمر الذي يؤدي إلى مزيد من تلك الأنشطة غير الرسمية.
2. ارتفاع تكلفة النشاط الرسمي، مثل الخطوط الحمراء (الأنشطة المغلقة)، أعباء ضريبية عالية، وتكلفة عالية لإنتاج منتج بجودة عالية، وكذلك شروط عمل متشددة، كل هذا يدفع بالأفراد للتوجه نحو السوق غير الرسمي.
3. البيئة الاجتماعية، خاصة ما يتعلق بالأمية والجهل والفقر وغياب احترام القانون. كما أرجعت بعض الدراسات نمو هذا السوق لعوامل أخرى مثل برامج صندوق النقد والبنك الدولي التي تدعو إلى الحد من الدعم ومزيد من الضرائب بمختلف أشكالها، وكل هذا يدفع بالأفراد نحو السوق غير الرسمية تجنباً لتلك القيود.
4. ضعف القطاع الرسمي (سواء العام أو الخاص) في توفير الفرص الوظيفية يلعب دوراً مهماً في تنامي ظاهرة السوق غير الرسمية. ولهذا لوحظ أنه في ظل سياسات التخصيص وتسريح العمال مع ضعف قدرة القطاع الخاص على استيعابهم أن توجه معظم هؤلاء نحو السوق غير الرسمي.
يترتب على تفشي ظاهرة السوق غير الرسمي والباعة الجائلين إعاقة عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتدني مستويات الإنتاجية للاعتبارات التالية:
* بقاء الشركات والأنشطة غير الرسمية ضعيفة وأقل إنتاجية، حيث تعمل بأقل من نصف مستوى الإنتاجية الذي تعمل به المؤسسات العاملة في السوق الرسمي. فنظراً لكونها شركات غير رسمية (غير قانونية)، لا تتاح لها فرصة الاقتراض الرسمية. كما أنها لن تكون قادرة على اللجوء لمؤسسات الدولة لإجبار المتعاملين معها على تنفيذ تعهداتهم وتعاقداتهم، وهو ما يؤدي إلى مزيد من عمق هذا النشاط.
* تدعم ميزة تجنب التكلفة العالية (من خلال التجنب أو التهرب الضريبي أو التهرب من القواعد عامة) قدرة الشركات غير الرسمية على اقتناص السوق من الشركات الرسمية الأكبر والأعلى إنتاجية، وهو ما يؤدي في النهاية إلى جعل النشاط غير الرسمي أكثر جاذبية مقارنة بالنشاط الرسمي. بل، في ظل تراجع صافي الربح للشركات العاملة في السوق الرسمي، تعجز الشركات الرسمية عن التوسع أو التحديث التقني والإداري، بل ربما تنزلق تلك الشركات الرسمية تدريجياً نحو السوق غير الرسمي.
* تفشي مشكلات اجتماعية وصحية كثيرة، إذ يؤدي انتشارها إلى دخول شريحة كبيرة من قوى العمل في نفق مظلم من ظروف العمل القاسية سواء ما يتعلق بالاشتراطات الصحية أو مستويات الأجور، وهو ما يؤدي في النهاية إلى تبعات اجتماعية كبيرة كانتشار الأمراض والجريمة والتفكك الأسري... إلخ، في الوقت الذي لا يملك فيه هؤلاء الحق في تكوين اتحادات عمالية تدافع عن حقوقهم.
* هروب الاستثمارات الوطنية والأجنبية التي اعتادت على العمل في النور من خلال سلوك القنوات الرسمية. في ظل انتشار السوق غير الرسمي يعايش هؤلاء المستثمرون حالة من عدم اليقين، سواء ما يتعلق بحجم الإنتاج أو نوعية المنتج أو حقوق الملكية الفكرية وحقوق العلامات التجارية. وبالتالي لن يكون أمامهم من سبيل سوى الهروب نحو أسواق أكثر يقيناً.
وعلى مستوى المملكة، وكما أوضح مؤشر الحرية الاقتصادية 2006م، تبين أن مؤشر السوق غير الرسمي (مكون من مكونات المؤشر العام) هو أدنى مؤشرات المملكة، ويشكل عقبة أمام تبوؤ المملكة مكانة أفضل في هذا المؤشر المهم. فإذا كان مؤشر الحرية يحدد النقاط من 1 إلى 5 في كل مؤشر، بحيث إن الدول الأقرب إلى 1 تؤدي أداء جيداً، في حين أن الدول الأقرب إلى 5 تشهد تراجعاً. وبحسب هذا المؤشر، شهدت المملكة تراجعاً تدريجياً، وهو ما يعكس نمواً مطردا في السوق غير الرسمي، حيث زادت النقاط من 2 في 1996 إلى 3.5 من إجمالي 5 نقاط في 2006م. كما أنه، وبحسب دراسة مقارنة، سجل السوق غير الرسمي في المملكة في 2003 ما نسبته 19.7 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، بعد أن كان يشكل 18.4 في المائة عام 1990م. إذاً، عندما نكتشف أن نحو ربع الناتج المحلي الإجمالي السعودي يتم في إطار السوق غير الرسمي، فإن معنى هذا أن ربع الناتج المحلي أو ربع عناصر الإنتاج المحلية تعمل بنصف إنتاجيتها، وبعيدة عن برامج وخطط الدولة.
وقد يُحتج بأن من أهم مبررات المتوجهين للسوق غير الرسمي (كما أوضحت الدراسات والتجارب المقارنة) التهرب من الضرائب، والمملكة لا تعرف نظام الضرائب الوضعي، حيث تُدفع الزكاة. ولكن يرد على ذلك، بأن من رضي بالخروج على القانون، والعمل بعيداً عن أعين الدولة، بل تجرأ وأنتج منتجات تفتقر إلى المواصفات الصحية، لن يتورع في عدم دفع الزكاة الشرعية، لأن نشاطه بأكمله يتم خارج إطار الشرعية والمشروعية! بل حتى لو افترضنا استعداد المشتغلين في السوق غير الرسمي لدفع الزكاة باعتبارها ركنتاشرعيا، إلا أننا لا يزال أمامنا معوقات أخرى كتلك المتعلقة بإجراءات ورسوم التسجيل أو الترخيص أو مشكلة اشتراطات العمل. وبناءً عليه، نقترح ما يلي:
* مزيد من التبسيط في إجراءات وتكلفة منح التراخيص، مع الوضع في الاعتبار حجم المشروع، بحيث لا يتساوى مشروع كبير بمشروع صغير، على أن تخول مؤسسات الإدارة المحلية سلطة منح التراخيص واتخاذ الإجراءات.
* دعم المشاريع التي يغلب عليها وصف المشروعات المتوسطة والصغيرة العاملة بشكل غير رسمي في مجال اشتراطات العمل، بأن تشارك الدولة في خدمات الرعاية الصحية والبيئية، وأن تقدم الحوافز المختلفة من بنية أساسية وغيره بأسعار رمزية.
* دعم المؤسسات القائمة على تطبيق القانون والمؤسسة القضائية بما يمكنها من أداء مهامها بمرونة وكفاءة ويسر وشفافية، وبما يخدم مصلحة الوطن والمواطن. فينبغي تكثيف جهود المكافحة، خاصة في المناطق التي تعج بالعمالة الوافدة الرخيصة، أو أمام المساجد... إلخ، وذلك لحصر الظاهرة في أدنى الحدود. وفي الوقت نفسه، يلزم تغليظ العقوبات على مَن يتجه إلى العمل غير الرسمي بعد أن تكون قد تيسرت أمامه سبل العمل الرسمي.
* وأخيراً، ضرورة نشر الوعي من خلال وسائل الإعلام المختلفة بمخاطر تفشي النشاط غير الرسمي ومنتجاته سواء على المواطن أو على الاقتصاد الوطني في مجموعه. والله الموفق.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي