الاستراتيجية الثقافية في ظل التحولات الاقتصادية

من المفارقات العجيبة في مجتمعنا أننا نغضب ونتساءل ونتحرك للمعالجة عندما نرى أحد أبنائنا خارج أسوار المدرسة وقت الدوام المدرسي لأننا نعتقد أنه سيفوته الشيء الكثير من العلم والمعرفة، ولأنه قد يرسب، كما أنه قد يكون فريسة سهلة لمن لا يخافون الله من المفسدين في الأرض، ولكننا نفرح ونثني ونشجع من نراه خارج مبنى العمل ونتساءل عن كيفية حصوله على هذه الفرصة؟ وكيف لنا أن نكون كذلك موظفين غير منتجين نأخذ الأجر كاملا دون عمل؟ وعندما نعلم أن قريبا له قدم له هذه الفرصة يكبر في عيوننا لأنه (راعي فزعة).
ومن المفارقات العجيبة أيضا أن الموظف المنتج المنضبط الملتزم والمبدع تُحوًل إليه جميع الأعمال ويكلف بعمله وعمل الآخرين من المتقاعسين، ويعاقب إذا أخطأ بينما يتم التساهل مع الموظف ضعيف الإنتاجية المتقاعس والمتحايل على الأنظمة واللوائح وتتم مكافأته بالمهمات الخارجية والدورات للتخلص منه لأن وجوده في العمل مشكلة أكثر من كونه حلا.
يحكي لي أحد المسؤولين في جهاز بيروقراطي أن المهام الخارجية ذات البدلات المجزية هي في العادة من نصيب الموظفين المتقاعسين للتخلص منهم، ويقول إنه قرر ذات مرة ومن باب العدل والمساواة أن يكلف موظفا نادرا منتجا بمهمة ذات مردود مالي، إضافة إلى فرصة السفر إلى دولة أوروبية وفعل ذلك، ولكنه عانى ما عانى من غياب هذا الموظف النادر حتى لامه المسؤولون الآخرون على ذلك قائلين له "المفروض أنك تطلع واحد من الموظفين الذين لا ينفعون في العمل".
جلست مع مديرين تنفيذيين لشركات متوسطة وكبيرة يعانون الأمرين ومع الأسف الشديد من ضحالة ثقافة معظم الموظفين السعوديين بشكل عام فضلا عن ثقافة العمل، حيث الرغبة في الحد الأدنى من العمل المقرون بضعف الرغبة في التعلم واكتساب المعارف والمهارات والقدرة على تنمية الذات فضلا عن الأعذار التي لا تُعد ولا تُحصى للتأخر أو الغياب عن العمل، أما الابتكار والإبداع فتلك مفاهيم شبه غائبة.
ندرك أن الطفرة الاقتصادية خالفتها في الاتجاه انتكاسة في قيم ومفاهيم العمل حيث احتضنت الأجهزة الحكومية السعوديين كافة وأغدقت عليهم الرواتب والبدلات فضلا عما أغدقته عليهم الصناديق التنموية آنذاك من قروض عقارية وزراعية وصناعية وغيرها، حتى أصبح السعوديون أسيادا يستقدمون الوافدين للعمل لديهم في جميع المجالات والقطاعات، ولكن دوام الحال من المحال، حيث النمو السكاني الطبيعي الذي جعل من استمرار الرعوية ضربا من الخيال، وهو ما جعل الحكومة تتجه لقوى السوق لتلعب دورها في تحقيق الأهداف التنموية بما ذلك توفير الفرص الوظيفية للمواطنين.
القطاع الخاص الذي استهدفته الحكومة ليكون شريكا حقيقيا لها في تحقيق الأهداف التنموية وتوفير الفرص الوظيفية يعتمد الربحية كمحصلة لنشاطه ولا غير الربحية مهما قيل عن المسؤولية الاجتماعية من أقوال، والموظف السعودي ليس المورد البشري المنافس معرفة ومهارة واتجاهات وسلوكا، وهو ما جعل السعودة تترنح تحت ضربات التحايل والتستر والممارسات غير القانونية.
الفكر الإداري الحديث يقول إن ثقافة المؤسسة تعد عنصرا مهما في تحقيق أهدافها، والثقافة المؤسسية تعني "مجموعة القيم والمفاهيم التي يجب أن يؤمن بها العاملون التي تؤثر بشدة في الأساليب التي يتم بها إنجاز الأعمال، كما تحدد الطريقة التي يتصرف بها العاملون في المؤسسة والطريقة التي يتفاعلون بها في غياب شكل التعليمات المباشرة"، وبكل تأكيد فإن مستوى الثقافة السائدة في أي مؤسسة يتأثر سلبا أو إيجابا بمستوى الثقافة السائدة لدى أفراد المجتمع الذي تعمل فيه هذه المؤسسة.
وهو ما يعني أن المؤسسات التي توظف أفرادا يتمتعون بثقافة عمل وإنتاج وابتكار وتطوير ومنافسة وعطاء وتميز نتيجة شيوع هذه القيم ومفاهيمها في المجتمع الذي تنشط به ستكون مهمتها أسهل في تطوير ثقافة مؤسسية فاعلة في تحقيق أهدافها بخلاف تلك التي توظف أفرادا في مجتمع ثقافته غير ذلك، حيث عليها أن تبذل جهودا كبيرة بل ومضنية لتحقيق شيء من هذا، وقد لا تستطيع أن تؤسس لثقافة مؤسسية فاعلة مشتركة لأن ثقافة الأفراد لا يمكن إعادة تشكيلها بسهولة فهي منتج تراكمي من مصادر متعددة عبر فترة طويلة من الزمن، وهو ما يعني أن هذه المؤسسة ستعاني ضعف مواردها البشرية بسبب ضعف الثقافة، وكل إداري يعلم أن نجاح الموظف يعتمد على سماته وأخلاقه المنبثقة من ثقافته بنسب تصل إلى أكثر من 85 في المائة، بينما لا تشكل القدرات الفنية سوى النسبة الباقية.
نعم الموظف الذي جاء من مجتمع يحترم الآخر سيحترم زملاءه ويتعاون معهم، والموظف الذي جاء من مجتمع يقدر العمل والإنتاجية سيعمل وينتج دون توجيه، والموظف الذي جاء من مجتمع يحترم الإنسان أيا كان سيحترم المراجع والعميل أيا كان، والموظف الذي جاء من مجتمع ينبذ المتطفل والمتكاسل والمتقاعس لن يكون هكذا بحال من الأحوال، والموظف الذي جاء من مجتمع لا يرى غير النتائج معيارا للتقييم لن يرضى بغير النتائج معيارا لتقييمه، وهكذا. والسؤال: هل فكرنا في استراتيجية ثقافية قابلة للتطبيق لتهيئة أفراد المجتمع السعودي خصوصا الشباب القادمين لسوق العمل بمئات الآلاف لمرحلة التحول الاقتصادي التي تعيشها بلادنا والمتمثلة في التحول إلى اقتصاديات السوق من خلال برامج التخصيص التي تستهدف تطوير جودة السلع والخدمات وتخفيف التكاليف عن كاهل الحكومة التي قدمت الكثير فيما مضى من الزمن؟
بالنسبة لي لا أعتقد ذلك، وأعتقد أنه حان الوقت لتعاون فاعل بين الوزارات ذات الصلة بقضية ثقافة العمل والإنتاجية (العمل، التربية والتعليم، الإعلام،التعليم العالي) لإعداد استراتيجية ثقافية تحدد وترسخ القيم والمفاهيم والمعارف التي يجب أن تشاع لدى أفراد المجتمع السعودي بما يتناسب والتحولات الاقتصادية القائمة والمستهدفة من أجل توفير موارد بشرية سعودية ذات ثقافة عالية قادرة على الوفاء بمتطلبات هذه التحولات التي لابد منها، ولا شك أن وزارة العمل بقيادة الوزير المثقف الدكتور غازي القصيبي هي الجهة الأولى بقيادة مثل هذه التعاون.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي