هل هناك ما يبشر بالخروج من الأزمة الاقتصادية العالمية؟
هناك إجماع على أن العالم لم يشهد أزمة اقتصادية منذ الكساد العظيم عام 1930م بمثل حجم الأزمة الاقتصادية الحالية, فلا يوجد هناك قطاع صناعي أو مالي أو تجاري أو خدمي إلا تأثر سلبا بهذه الأزمة, بل هناك من يعتقد أن الأزمة طالت قطاعات ستؤثر في تطور واستقرار العالم في المستقبل مثل حقل التعليم والبحث العلمي والخدمات الإنسانية. وإن دولا كثيرة لم يكن لها دور في حدوث الأزمة ولكنها هي الأخرى تضررت اقتصاديا وماليا وصارت تعاني ضغوطا اقتصادية أربكت خططها وصار من الصعب عليها تحقيق تلك النتائج التي كانت ترجوها في المستقبل. وبفعل ما أحدثته هذه الأزمة من هزة قوية في الاقتصاد العالمي توقعت المؤسسات المالية الدولية وعلى رأسها البنك الدولي أن الاقتصاد العالمي سينكمش عام 2009 بمقدار 1.3 في المائة ولأول مرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية, بل إن الاقتصاد العالمي لن يصل إلى قاع هذه الأزمة إلا عام 2010 ومن بعد ذلك يمكن الحديث عن استقرار ومن ثم معاودة النمو الإيجابي. وهذه التوقعات السلبية دفعت بدول العالم, وبالأخص مجموعة العشرين ومن ضمنها المملكة, إلى بذل جهود كبيرة ومنسقة للتخفيف من آثار الأزمة والتعجيل بالخروج منها, ويبدو أن هذه الجهود نجحت وبدأ الاقتصاد العالمي يستجيب معها إيجابيا وأن هناك كثيرا من المؤشرات الاقتصادية الإيجابية التي أشاعت أجواء من التفاؤل بالقرب من لحظة احتواء الأزمة وحتى الخروج منها بوقت أسرع مما قدر لها.
وزراء المالية ومحافظو البنوك المركزية في مجموعة العشرين الذين اجتمعوا في واشنطن أخيرا أكدوا في بيانهم أن الأزمة الاقتصادية العالمية شهدت بعض الانفراج وأن هناك كثيرا من المؤشرات المحلية والعالمية التي تدعم هذا الاعتقاد. الحديث اليوم في ضوء هذه المؤشرات الإيجابية بأن الأزمة ستصل إلى قاعها مع نهاية الربع الثاني من العام الحالي وأننا سنشهد نموا إيجابيا محتملا في الربع الأخير من العام الحالي, وأن الاقتصاد العالمي سيشهد نموا اقتصاديا في حدود 2 في المائة عام 2010, وهذا يعكس التوقعات السابقة التي رأت أن الأزمة ستستمر حتى العام المقبل.
من المؤشرات الإيجابية معاودة نمو قطاع بناء المساكن في الولايات المتحدة ونجاح معظم البنوك الأمريكية الكبيرة في اختبار قوة صمودها وسلامة قاعدتها المالية وإن كانت هناك توصية لبعض هذه البنوك بزيادة رأسمالها من خلال بيع بعض أصولها أو جذب مستثمرين جدد للمشاركة في رأسمالها ولكن بشكل عام لم تعد هذه البنوك في حاجة إلى مزيد من الأموال العامة لإنقاذها وحمايتها من الإفلاس. وفي الصين صرح نائب رئيس بنك الشعب الصيني, وهو البنك المركزي في الصين, بأن الاقتصاد الصيني بدأ يشهد استقرارا وأن نسبة النمو المحددة بـ 8 في المائة والتي تضمن الاستقرار للصين سيحققها الاقتصاد الصيني عام 2009م بخلاف ما كان متوقعا له.
وعلى الرغم من كل هذه المؤشرات الاقتصادية الإيجابية ومع كل هذا التفاؤل والاستبشار بقرب الخروج من الأزمة إلا أن البعض لا يرى نهاية قريبة وسريعة للأزمة بل يعتقد أننا لم نصل حتى إلى قاعها حتى يكون هناك حديث عن ارتداد محتمل للاقتصاد العالمي إلى مرحلة النمو الإيجابي, فنسبة البطالة وصلت إلى ما يقارب من 9 في المائة في الولايات المتحدة وأن البعض يضع النسبة الحقيقية هي في حدود 15 في المائة, وهذا رقم كبير جدا, وأن أزمة البنوك والمصارف الدولية ما زالت لم تعالج بشكل جذري لأن هناك ما يقدر بأربعة ترليونات دولار من الأصول الفاسدة التي تثقل وضعها وحساباتها المالية والمطلوب بشكل ملح وعاجل هو تنظيف هذه البنوك منها ولكن ما خصص لهذا الأمر لم يتجاوز التريليون من الدولارات. وما زالت البنوك متحفظة في توفير القروض والأموال والاعتمادات اللازمة لتحريك عجلة الاستثمار ولن تكون هناك فرصة حقيقية لإنهاء الأزمة من غير وجود مؤسسات مالية وقوية وفاعلة في تقديم التمويل اللازم للنشاطات الاقتصادية.
نعم هناك تفاؤل بقرب الخروج من الأزمة الأكبر في تاريخ الاقتصاد الحديث, وهذه المؤشرات الاقتصادية الإيجابية واستبشار الأسواق المالية بها هو دليل على صدق هذا التفاؤل, ونعم هناك طرف مقابل يدعونا إلى التأني وعدم الاستعجال لأن الأزمة هي كبيرة جدا ولا يمكن للعالم أن يستوعبها أو يحتويها في هذه الفترة الزمنية القصيرة. وإلى جانب هذا الطرف وذاك هناك طرف ثالث يعتقد أن الاقتصاد العالمي قادر على الخروج من الأزمة ولكن لن يعود إلى ما كان عليه قبل الأزمة بل لا يريد هذا الطرف أن يعود الاقتصاد العالمي إلى الأجواء والمناخات نفسها التي كانت سائدة قبل الأزمة. إن سبب وقوع الأزمة هو قبول العالم بمؤسساته المالية وحكوماته وشركاته بتنامي اقتصاد وهمي وغير منتج وإن أرقام النمو وحركة التجارة الضخمة التي شهدها العالم قبل الأزمة هي في جزء كبير منها كانت تعكس هذا الواقع الاقتصادي غير الحقيقي.
نعم سيكون هناك خروج للاقتصاد العالمي من الأزمة ولكن ما هو مطلوب هو بناء اقتصاد عالمي وبمعدلات نمو حقيقية ومستدامة, ومثل هذا الخروج من الأزمة يستدعي كثيرا من التغيرات الهيكلية والجذرية, فهل فعلا سيكون العالم بمستوى هذا التحدي الكبير؟