بعض الدول توظف الدبلوماسية لجني ثمار الوحدة
تسعى الدول إلى التكتل والاتحاد إما لمصالح مشتركة، اقتصادية أو سياسة أو أمنية، وإما لاستثمار موارد طبيعة، وإما بحكم الجوار والعرق والقواسم المشتركة. وتمر هذه الاتحادات بعدة مراحل حتى تصبح الدول المتناثرة دولة واحدة والأمم المتناحرة أمة واحدة. البعض ينظر إلى مراحل إبرام التكتلات على أنها مراحل متصلة ويجب أن تنضج كل مرحلة وتأخذ وقتها وشروطها قبل أن ينتقل الاتحاد للمرحلة التالية. البعض الآخر يطلق عليها أنواع الاتحادات بصفة كل مرحلة منفصلة عن غيرها وليس لها علاقة بالأخرى. وفي هذا المقال سنعرض خطوات التكتلات الدولية على أنها مراحل متصلة تبدأ بتحرير التجارة وتنتهي بالاتحاد السياسي ثم نعرض مثالاً عن كيفية التعامل مع الخلافات داخل التكتلات.
يبدأ الاتحاد بتحرير التجارة بين الدول الأعضاء وهنا يتم إزالة جميع العوائق التي تعترض حركة السلع والخدمات, إضافة إلى إلغاء الدعم الذي تقدمه الدول الأعضاء لصناعاتها ومنتجاتها المحلية وتسهيل الإجراءات الإدارية التي تعترض واردات الدول الأعضاء إلا أنه يظل لكل دولة حرية التحكم في سياستها التجارية الخارجية، وأقرب مثال يوضح هذا النوع هو اتحاد NAFDA بين كل من الولايات المتحدة وكندا والمكسيك عام 1989.
تأتي بعد ذلك مرحلة الاتحاد الجمركي التي يتم خلالها إضافة إلى إزالة العوائق التجارية، تكييف سياسات التجارة الخارجية لدول الاتحاد. ولقد أقدم الاتحاد الذي ضم كلا من: بوليفاء، كولمبيا، الأكوادر، وبيرو، بفرض ضريبة جمركية على السلع الواردة لدول الاتحاد ما بين 5 إلى 20 في المائة. أما الاتحاد الأوروبي فلم يول هذه المرحلة الاهتمام اللازم وقد تخطاها إلى مرحلة السوق المشتركة التي تشمل, إضافة إلى تحرير التجارة وتكييف سياسة وخطط التجارة الخارجية، السماح لعوامل الإنتاج ورؤوس الأموال بحرية الحركة بين الدول الأعضاء. وقد تتأثر بعض دول الاتحاد جراء هذه الحركة فتزداد نسبة البطالة و التضخم إلا أن الدول المتضررة تغض الطرف لأنها تعوض في جوانب أخرى.
المرحلة الرابعة الاتحاد الاقتصادي ويشبه السوق المشتركة في أنه يستلزم انسياب عوامل الإنتاج وتكييف سياسة التجارة الخارجية للدول الأعضاء إلا أن الدول تسعى إلى تبني عملة موحدة، وتجانس معدلات الضريبة، وسياسة نقدية مشتركة، ورغم أن الاتحاد الأوروبي على مقربة منه إلا أنه ليس هناك نموذج للاتحاد الاقتصادي المثالي حتى يومنا هذا. وعندما يصل الاتحاد إلى هذه المرحلة, فإن هذا يمهد لقيام اتحاد سياسي وتصبح شعوب تلك الدول تحمل جنسية واحدة والدول المتناثرة تصبح دولة واحدة والعواصم المختلفة تقبل بعاصمة واحدة. والولايات المتحدة وكندا من النماذج التي توضح هذا النوع من الاتحاد.
والوصول إلى هذا الوضع ليس بالأمر السهل لأن الاتحاد يعترضه عدة معوقات من أبرزها ظهور الخلافات بين الأعضاء ورفض التنازل في بعض القضايا، لذا على الدول التي ترغب في الوصول بشعوبها إلى نهاية المطاف مراعاة عدة أمور أهمها إدارات الخلافات بالتركيز على نقاط الاتفاق وتجاهل ما عدا ذلك, لأن التقدم في الوحدة يعد دافعا لحل كثير من الخلافات إلا أنه يجب أن تفصل حالات عدم الاتفاق قبل أن يتنقل الاتحاد إلى المرحلة التالية حتى لا يؤدي ذلك إلى انسحاب بعض الأعضاء وتتحول الخلافات إلى صراعات وبذا يفقد الاتحاد إنجازه وطموحه.
إلا أن بعض الخلافات قد تحتاج إلى تدخل سريع وهنا يستوقفا الخلاف الذي نشأ بين بريطانيا وفرنسا في قمة الدول الصناعية، رغم أن هذا لا يمثل اتحادا تقليديا، إلا أن طريقة معالجته قد تفيد في حل بعض الخلافات بين الدول التي تطمح في إكمال مشوارها. نشأ خلاف في وجهات نظر دول زعماء قمة الدول الصناعية السبع, حينما رفضت الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، واليابان، وكندا تقديم مساعدات مباشرة لموسكو بينما أيدت ألمانيا الغربية (آنذاك)، وفرنسا، وإيطاليا ضرورة إمداد موسكو بنحو 15 مليار دولار لإنقاذ برنامج الإصلاح المتعثر الذي بدأه الرئيس السوفياتي ميخائيل جورباتشوف، حينما وجه نداء إلى زعماء القمة يناشدهم فيه بضرورة الوقوف بجانبه. بناء على ذلك قررت القمة إنشاء "البنك الأوروبي للتعمير والتنمية" لدول أوروبا الشرقية إلا أنه حدث خلاف على مقر البنك بين بريطانيا وفرنسا وقد تم التغلب عليه سريعا فقررت القمة أن يكون مقر البنك في لندن وتحتل فرنسا مقعد رئاسته. وعندما اصطنعت فرنسا هذا الخلاف فهي لا تطمح إلى الفوز بمقر البنك ولا برئاسته بل ترمي إلى تحقيق مكاسب أخرى فطنت لها الدول الأعضاء فتم إغلاق الباب مبكرا على خلاف قد يؤدي في النهاية إلى صراع يفقد القمة الغرض الذي أنشئت من أجله.
نستنتج من ذلك أن بعض الدول قد توظف الدبلوماسية بتصعيد بعض الخلافات أو معارضة بعض القرارات بهدف المقايضة والحصول على أكبر فائدة ممكنة من الوحدة. وهذا لا يخرج عن كونه مناورة دبلوماسية ما تلبث أن تعود بعدها إلى المجموعة وترضى بالأمر الواقع، فهي من الداخل متشبثة بالوحدة وتخشى نجاح الاتحاد وهي خارجة لأنها تعلم أن من بداخله يتمتع بقوة وحماية وموارد المجموعة ومن هو بخارجه فسيضل يواجه مصيره وحده وقد يعود, ولكن بعد أن يخسر الكثير.