الأجنبة
بصراحة .. فشلت السعودة فشلا ذريعا لا بسبب وزارة العمل ولا وزارة الاقتصاد والتخطيط ولا وزارة التجارة والصناعة ولا الهيئة العامة للاستثمار ولا الغرف التجارية ومجالسها ولا المؤسسة العامة للتعليم الفني والتدريب التقني ولا بسبب غيرها من الجهات الحكومية أو القطاع الخاص، ولا بسببي أو بسبب أحد منكم أو أحد منكن، إنما أفشلت السعودة نفسها بنفسها بعدما طافت سنين طوالا على أجهزتنا ومكاتبنا ومنتدياتنا وبيوتنا، جالستنا سامرتنا حاورتنا شاكستنا ونفضنا في وجهها كل ما لدينا من سديد القول وسديمه، فما ارعوت ولا امتثلت.
لم تفلح معها كل العقاقير والوصفات فلا الإخصائيون شفوا هزالها وكساحها ولا الخراصون أو المشعوذون.. فقد ظلت (ناشفة الرأس)، مجت كل دواء قدمناه، تحدت كل إرشاداتنا، توسلاتنا، نصائحنا، كل طبابتنا لها في أرقى المستشفيات وعند أمهر الأطباء، كما جربنا معها الإسعافات الأولية وأقسام الطوارئ.. كابرت وعاندت جاعلة البطالة حفرة تزداد كلما أخذنا منها، وصندوق الموارد البشرية داعم لأرصدة القطاع الخاص بنظام التطفيش أكثر منه للتوظيف ورفع الأجور. أما الاستثمار الأجنبي فبدلا من أن يسهم في خلق فرص عمل وأن يشكل إضافة نوعية لاقتصادنا الوطني صار بوابة لعبور استثمار طفيلي من نوع النطيحة والمتردية وما أكل السبع يخنق منشآتنا الصغيرة ويستنزف الثروة إلى الخارج، فيما صار بلدنا أكبر مركز تدريب للأجانب في العالم براتب مدفوع مع تمتع بخدمات ومرافق عامة وبنيات أساسية تكلفتها على الدولة، وتركت القطاع الخاص يمارس دلعه دون جزية ناكرا أفضال عقود الطفرة وفزعة الدولة على وجوده باعتبارهما الأساس وليس كدحه، ووصمت شبابنا بالتنبلة والكسل وتدني الإنتاجية والجشع، كما أعييناها نحن كأفراد بالمراوغة منها.
ولهذا ثابرت السعودة على التملص من التحقق، ما أن نظن أنها استسلمت حتى نضبطها متلبسة بخرقها، على المكشوف، ما اتفقنا عليه من مواثيق وما أبرمته معنا من عهود. جعلت من نفسها مجرد سياسة امتناع لامتناع فافشلت نفسها بنفسها ربما لكي تعفينا من تأنيب الضمير وفي الوقت نفسه لتفسح المجال واسعا لما هو عكسها ونقيضها وهو: (الأجنبة)!!
حدث ذلك من باب (التعويض)، فقبل نصف قرن، كانت تسودنا أعراف القرية وحياة الشح والعسر، كانت بيوت الموسرين منا لا تكاد تتمايز عن غيرها من البيوت الأخرى، لا في الشكل ولا المحتوى: ذات الزاد والشراب وذات الأثاث واللباس والدثار وما إن دهمتنا الطفرة في منتصف سبعينيات القرن الماضي حتى ارتج علينا فتهافتنا بنهم على كل ما له بريق أو يجلب المتعة ويوفر الراحة ليعوضنا عن سنوات الشح والعسر فاغتربنا عن طباعنا، غرقنا في طوفان الاستهلاك وميعة الترف. وبعد ما كانت بيوتنا وأعمالنا تدار بالاعتماد الذاتي تسرب الخدم والحشم من ثقوب هذا (التعويض) يتحركون طوع أمرنا برفة رمش أو إشارة أصبع أو نبسة شفة .. يملؤون بيوتنا ومكاتبنا ومواقع العمل وواجهات الحوانيت بكل الأنشطة الصناعية والتجارية والخدمية، شحناهم من وراء البحار.. ردمنا بهم هوة التعويض الغائرة فينا فشكل لنا ذلك مع الزمن إدمانا على ضرورة وجودهم، صارت حياتنا من دونهم لا تستقيم، كما صاروا لأولادنا أسلوب حياة وثقافة عيش لأنهم ولدوا بذهنية الاستهلاك لهم وللسلع معا!!
أقمنا بيوتنا، صروحنا، مرافقنا، أعمالنا، هواياتنا، مناسباتنا، ملذاتنا، حلنا وترحالنا على أساس وجود هذه العمالة حتى أصبحنا شعوريا ولا شعوريا نعض بالنواجذ على (ضرورة) وجودها حتى وإن أبدينا تبرما منها أمام بعضنا بعضا، يبقى الصحيح الأصح أننا نهرول في ردهات وزارة العمل وأروقة مكاتب الاستقدام ونستنفر الوساطات لكي نجلب على وجه السرعة العمالة التي نريد .. نعيد ذلك الكرة تلو الكرة.. متفننين في إيجاد الأعذار والتبريرات لأنفسنا هاربين منها بتنهيدة خائرة أو بإخراج اللسان، لأننا ندرك أن الفكاك من حالة (التعويض) يعني تهديدا بالتخلي عن امتيازات الدعة والاسترخاء التي (دوزنت) إيقاع أجسادنا وأرواحنا وباتت السعودة خطرا يهدد بفقدان هذا الإيقاع الأثير لدينا ولا سبيل لدرء هذا الخطر سوى في الاعتصام بـ (الأجنبة) وأن يقوم كل منا على طريقته بإحلالها محل (السعودة) لإدامة بقاء من اعتدنا على أمرهم ونهيهم برسم ضغط تأشيرة العمل ولا فخر!!