بعد أن استحوذت الأسهم على عقولنا وحياتنا .. هل من وقفة للمراجعة؟
في ضوء الاستطلاع الذي أعدته "الاقتصادية"، الذي كشف عن الأداء المتردي لصناديق الاستثمار، وأن غالبية المشاركين في العينة أعلنوا نيتهم الاستثمار المباشر في السوق وليس من خلال صناديق الاستثمار! ولكن...علينا أن نتريث وأن نفكر في التبعات المحتملة لهذا التوجه، من مختلف الجوانب (الاقتصادية والاجتماعية والتنموية) فبنظرة أعمق للأمور: هل سيشكل هذا التوجه (الاستثمار المباشر) الخيار الصائب؟ أم أن من الأفضل تطوير كيانات كبرى للاستثمار في الأسهم بدلاً من الاستثمار المباشر للأفراد؟
أود الإشارة بداية إلى أنني أكتب المقال بصفتي باحثا ومتخصصا في علم الاقتصاد، وفارق كبير بين الحديث عن الأسهم، الذي هو نشاط يفترض فيه تغذية ودعم عجلة الاقتصاد وبين الحديث عن الاقتصاد.. فالتنمية والاستقرار الاقتصادي هو الهدف الأسمى من أي نشاط .. ولهذا تم قبول آلية أسواق الأسهم "فقط" لما لها من دور "مفترض" وهو "تمكين المؤسسات والشركات الحصول على التمويل، الذي يُمكنها من التوسع دون الحاجة إلى اللجوء إلى القطاع المصرفي، إضافة إلى توسيع قاعدة الملكية، وتحسين مؤشرات الأداء والأرباح، بافتراض أن سهم الشركة يتفاعل إيجابا وسلباً مع مؤشرات الأداء الخاصة بالشركة (التحليل الأساسي)". ولكن أن تتحول أسواق الأسهم والنشاط فيها إلى هدف في حد ذاته.. فهذا يعني أننا – ومع الأسف - تحولنا إلى مجموعة من المقامرين، رضينا أم أبينا، وعليه، فإن مصطلح "مستثمر" في أسواق الأسهم - بأوضاعها الراهنة – بات محل نظر كبيرا.
لقد تركنا قطاعات الإنتاج الحقيقي، وأهملنا أعمالنا ومكاتبنا ومصالح المتعاملين معنا، وتجمدنا وتخشبنا أمام شاشات التداول.. نصعد بهذا السهم في لحظات، ونهبط به إلى أسفل سافلين في لحظات تالية، وتهبط معه بالطبع قلوب البسطاء الذين انجروا وراء هذا التغرير .. فما الذي تغير في وضع الشركة خلال دقائق حتى نقامر على سهمها؟ وهل الربح في ظل هذا الوضع مقبول شرعاً؟ سؤال ينبغي أن نطرحه على أنفسنا أولاً، وعلى علمائنا الأفاضل ثانياً.
هل يستطيع منصف أن ينكر أن أسواق الأسهم بأوضاعها الراهنة تضر بالاقتصاد والمجتمع أكثر مما تفيد؟ هل يستطيع منصف أن ينكر حجم الضرر الذي حل بمجتمعاتنا وأسرنا وعاداتنا وإنتاجنا .. إلخ؟ مؤكد أنه يستحيل قياس ذلك الضرر. هل يستطيع مخلص إنكار حقيقة تضرر قطاعات الإنتاج الحقيقي، إما لتفرغ الجميع للجلوس أمام شاشات التداول وإما لانتهاء المطاف بهم إلى مصحات العلاج النفسي، والدمار الأسري .. إلخ؟ فهل مطلوب أن يتحول المجتمع بأثره إلى خبراء أسهم؟ هل هذا هو الهدف من الحياة؟ ماذا عن قطاعات الإنتاج الحقيقي؟ وما نهاية هذا النفق المظلم؟ وهل تخيلنا أوضاعنا في غياب تلك الأسواق؟ هل كنا سنخسر كثيراً خاصة في دول المجلس؟
إن أهم درس ينبغي أن نتعلمه من الأزمة العالمية الراهنة هو أننا نرتكب أكبر خطأ عندما نركز جهودنا على قطاعات المال والتمويل، وفي الوقت نفسه نهمل قطاعات الإنتاج الحقيقي. فقد تضخم القطاع المالي ـ وأسواق الأسهم هي خير مثال - في وقت شهدت كبريات الدول تراجعا حادا في قطاعات الإنتاج الحقيقي فاختل التوازن، إلى أن وقعت الكارثة العالمية الراهنة. ولهذا ليس غريبا بالنسبة لي كاقتصادي أن يعلن الرئيس الأمريكي أخيرا عن سعيه وعزمه خفض دور وحجم القطاع المالي في الاقتصاد لمصلحة قطاعات الإنتاج الحقيقي! فأين نحن مما يجري حولنا، بعد أن أصِبنا في دولنا العربية قاطبة بصرع ومرض أسواق الأسهم، والشكر بالطبع لشحنة القنوات والبرامج الفضائية التي تصدع رؤوسنا على مدار الساعة بتحليلات وبرامج اختزلت الاقتصاد في نشاط الأسهم!!
أعتقد أننا – خاصة في ظل الأزمة العالمية الراهنة – في حاجة إلى إجراء مراجعة جادة لكثير من المسلمات التي أخذناها وطبقناها دون تفكير عميق. علينا أن نحسب التكلفة والعائد من عمل هذه الأسواق، التي هي دائماً مثال صارخ لحالة عدم الاستقرار والأزمات (فالتاريخ هنا خير معلم), هل حاولنا حساب هذه التكلفة؟ فمهما حاولنا، لن يمكننا حصر مختلف التكاليف، فقط أعمتنا القنوات والبرامج التي بات من الصعب إحصاء عددها، وكأننا مساقون نحو توجه يعلم الله وحده عواقبه.
وإذا ركزنا على المجتمع الخليجي, هو مجتمع مستقر أنعم الله عليه بالوفرة الاقتصادية والمالية، والاستقرار السياسي .. إلخ، وربما كان أقل المجتمعات حاجة إلى تلك الآلية عالية المخاطر، على الأقل في هذه المرحلة. فهل دعمت أسواق الأسهم حالة الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي في الخليج؟ أستطيع أن أدعي أن أسواق الأسهم في دول الخليج – بل على مستوى العالم بأثره – أضرت أكثر مما أفادت. ولنا في تجربة الانهيار التي شهدتها الأسواق منذ عام 2006 والانهيارات التي أعقبت الأزمة العالمية الراهنة المثل والعبرة، فقط إذا أردنا أن نعتبر.
سيسأل البعض: بعد أن عَقدت وصعبت علينا الوضع، فما بدائلك؟ نعم، هناك بدائل وحلول وسطية. فنحن أمام خيارين رئيسيين، إذا أردنا فعلا إعادة الحياة الاقتصادية (الاقتصاد الحقيقي) والاجتماعية إلى مجتمعاتنا وهما:
1 ـ أن يقتصر التداول المباشر في أسواق الأسهم على مؤسسات مالية عالية التأهيل، بحيث تتحلى بالشفافية والمصداقية والحرفية والحوكمة.. إلخ. نعترف بأن هناك قصورا في أداء الصناديق، ولكن أيضاً، ليس الحل في أن يتفرغ المجتمع للجلوس أمام شاشات التداول، فأمامنا ما هو أهم وهو الإنتاج الحقيقي، على أن نترك نشاط المال لأهل المال. ولضمان عملية استثمار حقيقي في السوق تشعرنا بأن ما يدخل جيوبنا حلال طيب، لا بد من تحديد فترة زمنية طويلة نسبياً تفصل بين الشراء والبيع، كما ينبغي فرض ضريبة أو رسم على كل عملية، حتى يتريث المتداول قبل قراره. المهم هو ألا نتصرف كالمقامرين، نشتري السهم في لحظة ونبيعه بعد لحظات .. ما الفارق إذاً بيني "كمستثمر" وبين المقامر؟ ما الذي تغير خلال هذه اللحظات؟ إذن المطلوب هو تطوير السوق ليكون أغلب النشطين فيها مؤسسات مالية شفافة وقوية نستأمنها على أموالنا ونتفرغ لأعمالنا التي أهلنا الله لإنجازها.
2 ـ البديل الثاني الذي يمكن أن يعمل جنباً إلى جنب (أو على استقلال) مع البديل الأول هو تشجيع قيام وإنشاء بنوك ومؤسسات استثمارية تقوم بعملية استثمار مباشر وشركة حقيقية، بحيث تكون القناة المناسبة للمودعين، يودعون فيها مدخراتهم، وتقوم تلك البنوك والمؤسسات المالية بدورها والتنافس فيما بينها بالاستثمار المباشر والشراكة في الشركات في مختلف القطاعات الإنتاجية، وبدلاً من أن تحصل الشركة على التمويل، يدخل معها البنك الاستثماري (بأموال المودعين) كشريك.
بهذه الطريقة نضمن عودة مواطننا إلى سكينته التي بات يفتقدها، كما سنضمن للمواطن حياة مستقرة هادئة، لا أن يبقى طوال 24 ساعة منشغلاً بسوق الأسهم وخسائره فيها أو أرباحه غير المبررة، ففي ظل هذا الانشغال يهدر صحته ويهمل أسرته وعمله. لا بد أن يعود كل إلى عمله، الطبيب يعود إلى عيادته والمهندس يعود إلى الموقع، والمعلم يعود إلى الفصل، لا أن يتحولوا جميعاً إلى خبراء أسهم!
وبدلاً من عشرات البرامج المملة التي تصدعنا ليل نهار عن الأسهم، نحن في حاجة إلى عشرات البرامج التلفزيونية والكتابات الصحافية عن قطاعات الإنتاج الحقيقي، فالأزمة العالمية الراهنة عكست حجم الهوة بين قطاعات الإنتاج الحقيقي وقطاع التمويل الخطر، فهل نتوقف لحظة مع أنفسنا نعيد خلالها النظر في توجهنا وأهدافنا ونسير في الاتجاه الصحيح أم نبقى في السير في هذا الطريق الوعر، وفي سبيله نضحي باقتصادنا وأعمالنا وأسرنا؟ سؤال مفتوح يبحث عن إجابة.. هل من مجيب؟ تحياتي.