جدي رجل بسيط ولكنه عظيم

كنت أعرفه معرفة سطحية ونتقابل في مناسبات مختلفة حيث نشترك في كثير من الأصدقاء وفي إحدى المرات خصني بدعوة لأمسية في منزله وبعد أن تداعى الحضور للانصراف طلب مني التريث لحديث خاص، وعندما اختلينا، قال لي إنه معجب بأسلوب كتابتي، ولديه رغبة في كتابة سيرة جده ويرغب في أن أتولى ذلك، وكان ردي أنني لست كاتب سير ولم أقم بذلك من قبل ولا أملك تلك المهارة، ثم أني كاتب هواية ولست محترفا، فالكتابة بالنسبة لي متعة. غير أنه ورغبة في استمالتي لموافقته ألح على أن أسمع منه رواية عن جده قال فيها " بلغ الثمانين وكنت أستمتع بقضاء الوقت معه. كنت أمارس عليه شقاوة الطفولة والمراهقة فأتحداه فيما أعرف وأستمتع بالتغلب عليه، وكان يستمتع في إسعادي بذلك، كنت الحفيد المقرب من عدة أحفاد، لا اعرف السبب ولكن ربما لأنه يشعر تجاه والدتي بمشاعر خاصة. فكثيرا ما كان يقول لي إن ما تعانيه والدتك من مشكلات في التنفس مرده إلى أنه كان يحبسها تحت التبن مرات عديدة ولأوقات طويلة. وكان عندما يقول ذلك تحتبس في عينيه دموع تترقرق لا يستطيع أن يخفيها فإن لم يسارع إلى تكفيفها سرعان ما تندلق على وجنتيه فتروي تجاعيدهما فيفتضح بمشاعره ويستسلم لنوبة من الأنين. وفي نبرات تبريرية اعتدت سماعها مرات عديدة تشب الكلمات مخترقة عبرات الحزن "كان لا بد من ذلك لأوفرها لرجل مثل أبيك " ويصمت ليبتلع ذلك التبرير الذي يبدو أنه غير كاف لينسيه آلام السنين، كنت أرقب جدي عندما تعتريه تلك الحال وكنت أتساءل، لماذا كان يحبس أمي تحت التبن؟
عندما عدت من الدراسة في الخارج في السنة الأولى، كانت زيارة جدي في قمة أولوياتي، وكنت تواقاً لتمضية وقت حميم معه، كان يسكن في قرية من قرى نجد، ويومها أيقظت حماسه للحديث والسؤال وتحديات الماضي وكأني ذلك الطفل الصغير الذي اعتاد "مناكشاته"، في تلك الليلة سهرت مع جدي وكانت لي سهرة العمر، فيها أدركت أنني لم أعد الطفل الحفيد في نظر جدي، بل أمسيت الحفيد الصديق له وبات الحديث مع جدي أكثر إفصاحاً وأكثر جدية ً.
جدي رجل بسيط، أمضى جل عمره فلاحاً، بعد أن ترك مزرعة أهله في قريتهم، وأصبح زراعاً في قرية أخرى والزراع هو من يستأجر مزرعة لموسم أو أكثر أو من يزرع زراعة بعلية " يعتمد على المطر". كان جدي يعتمد على المطر في زراعته وحتى يحين موسم المطر كان جدي يستمتع بالحياة فهو شاعر موهوب يحب المناظرة والتحدي وكثير من التغزل والتأمل في الحياة . لم يكن جدي فلاحاً مثابراً، كان زراعاً على هواه كما يقال، فهو يقول لي "عندما تكون همتي في الزراعة عالية أقصد صاحبي "أبو مسلم" وهو رجل بطبيعته متفائل فيحثني على الزراعة وتمني الخير وترجي سعة الرزق من الله والجهد في العمل، فأتوكل على الله وأجهد نفسي في ذلك، وعندما تكون همتي في الزراعة متدنية أقصد صديقي "أبو إبراهيم" وهو رجل بطبيعته حذر فيقول لي "يا سليمان إذا سلم بذرك من الهبايب ما سلم من الطير، خلك بدارك وأنت سالم" فاركن لمشورته وأفوت الموسم.
كان جدي رجل تبريري لديه سبب لفعل أي شيء وألف سبب لعمل لا شيء، ولكنه رجل سعيد محب للحياة ينظر لجميع مشكلاته على أنها ابتلاء من الله ولأنها من الله فهي دليل محبة الله له، لذا يكره التشكي ويستلهم الفرج ويصطبر، ويردد دائما عبارته المشهورة بين بناته كما تقول أمي "ما ابتلى الله أحداً أكثر من أنبيائه وما يسر على أحد أكثر من أعدائه" ثم يردد دعوته المشهورة أيضا "اللهم اجعلنا في حزب أنبيائك" لم يكن جدي سادي الشعور ولكنه يكافح مشاعر الخوف من الفاقة والعوز والجوع برجاء الرضاء من الله ويكافح مطالب المسؤولية تجاه بناته الكامنة في عمق عاطفته الأبوية بالارتماء في الحضن الإلهي طلباً للحماية وخلاصاً من عناء تلك المسؤولية فيقول دائماً لبناته عند الشكوى "إن الله يلفنا بردائه فنحن عياله أبناء عياله كفل لنا الرحمة والمودة فلا سبيل إلا لخلاص ولا صبر إلا ويتلوه فرج". كان جدي رجلا مؤمنا بكل خلية في جسده، ويتمثل ذلك الأيمان في تعامله مع الآخرين، فلا يكره من آذاه ولا يحقد على من عاداه ومقاله في ذلك "الشرور على الناس مسلطة فمن تقبلها كتبت له حسنات ومن صدها راحت لغيره أذى له ولهم" .
في تلك الليلية سألت جدي: لماذا كان يحبس أمي تحت التبن؟ كان جدي ينتظر ذلك السؤال، فجدي بطبعة دائما يريد الخلاص من مؤنة حمل الهموم وخصوصاً بعد أن تقدمت به السن، ولعلمه أن أمي لن تبوح بسر كهذا لما يسببه له من ألم . كان الليل قد شاخ من صباه فنظر إلي بنظرة الراجي والطالب للصفح والغفران وقال " يا ولدي كانت أيامنا غير هذه الأيام وكانت حياتنا غير هذه الحياة وكانت همومنا غير همومكم، كنت واحدا وكان لي عشرة أفواه كلها تريد أن تأكل. كنت أنا عائلتي، بناتي الثماني وأمهم، وفي كل موسم بعد أن كبرت البنات لا هم لي إلا أن أكابد رغبات الديانين (أصحاب الديون) في اقتناص بناتي تسديداً لديونهم أو تشديد القيود لعلي أرضخ لمطالبهم، كنت أعلم أن بنت الفلاح زوجة رخيصة في بيت الديان (صاحب الدين)، فهي متعة أكثر منها سكن، وكنت أشفق على بناتي من ذلك المصير، وكان للديانة جواسيس يخبرونهم بحال جميع الفلاحين " يسكت جدي للحظة ليترك تلك الدموع تترقرق بحرية فتروي وجنتيه فيلمع بهما ضوء القمر وينظر لي نظرة المستعذر " كانت أمك أجمل البنات وكان الديانة يطلبونها بالاسم وكنت أنكر أن لي بنت بهذا الاسم وعندما يأتي الموسم نطمرها أنا وجدتك تحت التبن كلما جاءنا زائر نعتقد بعلاقته بالديانة وتبقى تحت التبن ساعات وأحيانا أكثر من ساعات " فجأة يختفي صوت جدي بزفرة ونحيب ثم يغتصب الكلمات "كنت أوفرها لرجل يحترمها وتحبه مثل أبيك - رحمه الله". كان جدي بسيطا في حياته ولكنه عظيم بفكره وقلبه، أفلا يستحق أن تكتب سيرته وتبين تجربته ومعاناته وتطلعاته التي كانت عظيمة ودفنت معه في قبره؟".
تركت صاحبي بوعد أن أكتب شيئا عن جده ولكن ليس سيرة ولكن في مقال.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي