تجربة مصرية في السعي نحو الإصلاح التشريعي
كثيرة هي التجارب المصرية والعربية التي جرت خلال السنوات الأخيرة من أجل إصلاح الأطر التشريعية والقانونية التي تنظم الحياة السياسية والإعلامية والقضائية في مختلف البلدان العربية. وقد عرفت مصر منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي تنامياً راح يتزايد بصورة لافتة لمثل تلك التجارب التي اتخذ معظمها صورة الجمعيات والمنظمات الأهلية التي رفعت حقوق الإنسان بمختلف فروعها ومستوياتها كأسماء لها ومجالات لممارسة أنشطتها الإصلاحية. وحتى تكتمل حقيقة المشهد فإن عدداً من تلك الكيانات الجديدة لم يأخذ المهام التي رفعها شعاراً لها بالجدية التي تتناسب معها وتحول بعضها إلى مجرد لافتات فارغة من الممارسة الحقوقية أو الإصلاحية، الهدف الوحيد منها هو الحصول على أكبر قدر ممكن من التمويل والمساعدات المالية التي تخصصها لمثل تلك الأنشطة أعداد كبيرة من حكومات العالم ومنظماته الكبرى.
ومن التجارب التي تستحق الحديث عنها في مجال النشاط الجدي للإصلاح التشريعي والقانوني في مصر تجربة "منتدى الإصلاح التشريعي", الذي تشكل لمدة تقارب عامين ضمن المنظمة المصرية لحقوق الإنسان، التي تعد أقدم المنظمات في هذا المجال وأولاها ظهوراً في النصف الأول من ثمانينيات القرن الماضي. والقيمة الرئيسة لهذا المنتدى هي أنه سعى خلال فترة نشاطه إلى تحقيق هدفه الرئيس في الإصلاح التشريعي عن طريق التفاعل المباشر مع القوى والشخصيات المصرية من جميع التوجهات السياسية والمدارس الفكرية والتخصصات العلمية والعملية للاستفادة من آرائهم واقتراحاتهم التفصيلية في شأن هذا الإصلاح، دون أن يدخل في خضم الجدال السياسي والخلافات التي تسود بين مختلف الفرقاء السياسيين المصريين ما بين مساندين للحكومة ومعارضين لها. وقد أسفرت تجربة المنتدى في نهايتها عن نشر عدد من الكتب والدراسات التي جاءت ثمرة لعدد كبير من الندوات وحلقات النقاش وورش العمل وحملت في طياتها مقترحات تفصيلية محددة لجوانب الإصلاح التشريعي كما توافق عليها حضور هذه الأنشطة على اختلاف حساسياتهم السياسية والفكرية.
ولعل هذه التجربة المهمة بما سادها من روح توافقية بالرغم من اختلاف رؤى المشاركين فيها حول مفهوم الإصلاح التشريعي وتفاصيله تعطي بالفعل مثالاً إيجابياً للمجتمعات العربية الأخرى وما بها من كيانات أهلية تنشط في ذلك المجال للكيفية التي يمكن بها العمل المنظم والمثمر من أجل الإصلاح دون أن تستدرج إلى خلافات وصراعات الساحة السياسية بكل تناقضاتها.
وقد ضم المنتدى عدداً من أساتذة القانون الدستوري والقضاة وبعض القيادات الحزبية والإعلامية وأعضاء البرلمان من جميع الاتجاهات ونشطاء حقوق الإنسان وغيرهم من المهتمين والمختصين في موضوعات الإصلاح التشريعي. ولم تقتصر عضوية المنتدى ولا أنشطته على العاصمة القاهرة، بل امتد لست محافظات أخرى في شمال مصر وجنوبها للتعرف على رؤية النخب المحلية فيها لكيفية تحقيق هذا الإصلاح. ومنذ اللحظة الأولى حدد المنتدى بما لا يدع أي مجال للغموض أو اللبس أهدافه الرئيسة التي تركزت في ثلاثة: الأول هو السعي لتعديل التشريعات الوطنية بما يتوافق مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان المنصوص عليها في جميع المواثيق الدولية المعنية بحقوق الإنسان والموقعة والمصدق عليها من قبل الحكومة المصرية والملزمة لها طبقا للدستور المصري. والثاني هو تقديم مقترحات بمشاريع قوانين جديدة تفرضها طبيعة المرحلة الراهنة وتتماشى مع الهدف الأول أو مشاريع قوانين بديلة للقوانين القائمة والتي تتناقض معها، مع القيام بالضغوط السلمية والقانونية اللازمة من أجل تحقيق ذلك. وتمثل الهدف الثالث في القيام بالتعليق على مشاريع القوانين الجديدة سواء المقدمة من الحكومة أو أعضاء مجلسي البرلمان، وكذلك دعوة أصحاب الاختصاص للتعليق عليها، لترفع هذه التعليقات في النهاية إلى رئيس الجمهورية ورئيسي مجلسي الشعب والشورى.
ومن أجل إنجاز تلك الأهداف وتنظيم العمل بالمنتدى تم توزيع أنشطته بين ثلاث لجان متخصصة، تضم مجموعة من الباحثين والأكاديميين المتخصصين، أولاها لدعم حرية الرأي والتعبير، وتركز عملها في اقتراح قوانين جديدة أو تعديلات في أخرى قائمة بما يؤدي إلى إلغاء أو تحديد تحفظات مصر على المواثيق الدولية ذات الصلة بحرية الرأي والتعبير، حيث إن ترك تلك التحفظات على عمومها يؤدي لإمكانية مخالفة تلك المواثيق من خلال التشريعات الوطنية. كذلك توجهت تلك المقترحات نحو إدخال تعديلات تشريعية تتعلق بجرائم النشر ونظم حرية تداول المعلومات بما يضمن حق المواطن في الحصول عليها، وإلغاء عقوبة الحبس في جرائم الرأي والنشر. واهتمت اللجنة الثانية بدعم استقلال القضاء وتسهيل إجراءات التقاضي انطلاقاً من أن استقلال القضاء يعد أحد الأسس الرئيسة التي يقوم عليها نظام الحكم، فالقضاء هو الضامن الأساسي لتطبيق القانون وتحقيق العدالة وضمان حقوق وحريات المواطن. وقد تقدمت هذه اللجنة بعديد من المقترحات التفصيلية لتحقيق ذلك في قانون السلطة القضائية بصفة رئيسة والقوانين الأخرى التي تمس عمل القضاء. وركزت اللجنة الثالثة على دعم دور الأحزاب السياسية انطلاقاً من أنها تعد إحدى القنوات الرئيسة للمشاركة في الحياة السياسية، وإحدى الأدوات الأساسية في الممارسة السياسية في مصر بما يمكن أن تطرحه من برامج وسياسات تستهدف كسب ثقة الناخبين وتنفيذها في حالة حصولها على ثقة أغلبيتهم.
إن تجربة "منتدى الإصلاح التشريعي" قد لا تكون الأولى من نوعها في مصر أو البلدان العربية عموماً، إلا أن المنهجية العلمية والهادئة والدقيقة التي اتبعتها تستحق إلقاء الضوء عليها واعتبارها نموذجاً عملياً ومبدئياً في الوقت نفسه لمن يرغب في عالمنا العربي خوض تجربة الإصلاح من هذا النوع بما يضيف مقترحات واقعية ومحددة ويمكن الأخذ بها، دون الوقوع في فخ المعارك والصدامات السياسية التي يمكن أن يكون توقف الإصلاح نفسه هو ثمنها.