توحش الثقافة .. إلى من يرجع المجتمع؟
أتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر! هذه هي مشكلة الإنسان, فالله ـ سبحانه وتعالى ـ خلقه على هذه العظمة ونفخ فيه من روحه وجعله وحده كونا قائما بذاته وعنده من العوالم ما لا يعلم كنهها وحقيقتها إلا الخالق ـ سبحانه وتعالى, وكل هذه العوالم تعيش في حركة مستمرة ووفق نظام في غاية الدقة والروعة بفضل ما عنده من طاقة بعيدة المدى أشعلتها فيه تلك النفخة الإلهية, فالمشكلة هي أن الإنسان قد يهبط بنفسه اختيارا لا قهرا من على هذا المستوى العالي من العظمة التي أرادها الله ـ سبحانه وتعالى ـ له إلى مستوى ما دون الحيوان والجماد.
مرجعية الإنسان هي الله ـ سبحانه وتعالى ـ وقد تختل هذه المرجعية عندما يحيد الإنسان بفطرته فيعبد غير الله ويسلم وجهه إلى غير خالقه. الإنسان عندما يعطي زمام أمره إلى الفطرة فإنه في سلامة, لأنها ستتحرك به في طريق مستقيم إلى الله, ولكن عندما يمتطي شطحات عقله أو يساير شهوات نفسه, فإنها ستتحرك به في متاهات قد ينخدع بما فيها من لذات مؤقتة, ولكن نهاياتها ظلمات في ظلمات. مرجعية الله هي الحلقة الأهم في حياة الإنسان لأنها هي التي تبقي الفطرة على توهجها, وبقاء الفطرة على سلامتها وتوهجها يعني بقاء الإنسان على إنسانيته. الإنسان إنسان ما دام يحتفظ بهذه المرجعية في داخله, ويسقط في دائرة من دوائر اللإنسانية أو التوحش المتعددة عندما يوجه بوصلة مرجعيته إلى غير الله. وقد يظن المؤمن أو المسلم أنه غير الملحد وأنه غير مبتلى بهذه المشكلة لأن إيمانه أو إسلامه يعني أن لا مرجعية له إلا الله, أشهد أن لا إله إلا الله, ولكن هذه المرجعية مجرد إعلان لفظي أو نظري ولا يكتمل عقد هذا الإعلان إلا بالعمل بها في جميع مجالات الحياة. وتتسلل المرجعية إلى غير الله في حياتنا الفردية والاجتماعية عن طريق التقديس, فالفرد الواحد منا قد يؤمن بالله ويقر له بالمرجعية المطلقة ويتعبد له في إطار هذه المرجعية ولكنه يعيش حياته العملية وفق مرجعيات متعددة, فهو يأخذ الحق من أقوال الناس وهم غير معصومين عن قول الخطأ سهوا أو عمدا, وقد يجعل لهواه ورغباته المرجعية الكبرى في حياته, فالعدل عنده ما وافق هواه, والمصلحة تتحقق طالما كانت هناك منفعة يرجوها أو رغبة أو متعة يسعى إليها. وقد يلبس هذا الإنسان قدسيته هذه على دعاوى أو مرجعيات فكرية قد تبناها أو توصل إليها بجهده البشري, وعندها يظلم ويحارب ويقتل ويعتدي على حقوق الآخرين الذين لا يأخذون بمرجعياته نفسها, وكل ذلك بحجة الدفاع عن الحق ومقارعة الباطل.
ويبقى اختلال مرجعية الفرد على أهميته مشكلة محدودة الأثر, ولكن المشكلة الكبرى هي عندما تختل المرجعية في ثقافة الأمة والمجتمع, فالمجتمع الذي يرجع بقيمه وأخلاقه وعلاقاته وممارساته إلى غير الله, فإن كل هذه القيم والأخلاق والعلاقات ترتد بالمجتمع إنسانيا إلى الوراء وبدرجات متفاوتة بفعل تلوث فطرة ذلك المجتمع بالملوثات التي أفرزتها تلك المرجعيات التي حالت بين المجتمع وهدي الله ـ سبحانه وتعالى. وفي ضوء هذا الفهم لأهمية المرجعية في الثقافة الاجتماعية يصبح من المهم أن يجتهد المجتمع في تحصين وتنقية ثقافته من المرجعيات التي تشحن الثقافة بقيم وقناعات وممارسات تقتطع من إنسانية ذلك المجتمع وقد تطيح به فعلا في دائرة التوحش. وعند الاقتراب من الواقع نجد هناك كثيرا من المؤشرات التي تكشف فعلا عن وجود خلل مرجعي في ثقافة المجتمع, وربما لهذا السبب صارت مجتمعاتنا تعاني عجزا في مخزونها الإنساني, وهذا بدوره انعكس على سلوكياتنا وعلاقاتنا مع بعضنا ومع الآخرين. هذه القسوة في التعامل مع المختلف معنا في الرأي والاجتهاد تعبير عن فقر وعجز في البعد الإنساني في ثقافتنا الاجتماعية, وهذا التراجع الخطير في مسألة الحفاظ على الحقوق الفردية والاجتماعية من الأدلة الواضحة على تضخم نزعة التعدي على الآخر, ولما كان الدين هو المحور الأهم في حياتنا فإننا نجتهد في توظيف الدين لتبرير عدم إنسانيتنا وتجاهلنا حقوق غيرنا. ومن هذه المؤشرات التي تدلل على وجود مثل هذا الخلل المرجعي في الثقافة الاجتماعية نذكر بعضها وباختصار:
1- تقديس الأفراد: هناك زخم كبير في ثقافتنا يدفع بنا إلى تقديس الأفراد, وهذا الفرد المقدس يتحول في النهاية إلى مرجعية ندور في فلكها ونستمد منها ما يشكل كثيرا من تفاصيل حياتنا. وكثيرا ما نخلط بين الاحترام والتقدير والتبجيل والإقرار بالفضل وبين حالة التقديس, فتقديس الأفراد علاقة عمياء لا ترى عند المقدس إلا ما هو جميل وكبير وحسن وعظيم, وبالتالي ما يصدر عنه لا بد أن يكون من ورائه خير ومصلحة. الثقافة التي تشجع نزعة التقديس للأفراد في محيطها الاجتماعي ثقافة تتحول بالأمة والمجتمع إلى قطيع من البشر, ومثل هذا القطيع البشري يستثار بسهولة حتى ولو كانت القضية تفتقد الأساس المنطقي والعقلاني لها.
2 - تقديس الماضي: تتهم الثقافة العربية بأن أبواب الماضي فيها مشرعة ولا تطل على الحاضر إلا من نافذة صغيرة ومعتمة وربع مفتوحة وبينها وبين المستقبل جدر سميكة وعالية جعلتها لا ترى ولا تفكر ولا تدري عما سيحدث في المستقبل. ليس المطلوب أن نتخلى عن الماضي, لأن مثل هذا الطلب هو دعوة إلى التخلي عن جزء من حياتنا, ولكن المشكلة هي هذا الافتنان وهذا التقديس للماضي وشخوصه وأحداثه ومنجزاته. عندما يكون الماضي بهذه المكانة في نفوسنا فإنه من الطبيعي أن تتعطل قدراتنا الإبداعية والنقدية لكي نتماهى مع الماضي ولكي نبقى نحتفظ بقدسيتنا له في نفوسنا. إننا في حاجة إلى تصحيح ثقافي ينزل بالماضي إلى موقعه الطبيعي باعتباره حيزا زمنيا يختزن في داخله تجربة بشرية لها ظروفها وملابساتها وإنجازاتها وأخطاؤها, وكلها دروس يمكن التعلم منها والاستفادة من نتائجها.
3 - تقديس العادات والتقاليد: من الطبيعي أن تشكل العادات والتقاليد محورا رئيسيا في بناء المنظومة الثقافية, ولكن العيب في ثقافتنا أنها سمحت لكثير من هذه العادات والتقاليد أن تكون لها اليد العليا في بناء شخصيتنا, إنها استطاعت أن تهمش العقلانية في حياتنا وأن تبعد العلم عن تحديد كثير من خياراتنا, بل إنها استقوت حتى صارت من القوة أنها تزاحم الدين في تشكيل كثير من مفاصل حياتنا. إن العادات والتقاليد من منظور أهل الفكر هي تلوين للوحة الحياة ولكن أن تتحول هذه العادات إلى مرجعية ثقافية لها من القداسة ما يوحي بتحريم الخروج عليها أو حتى التفكير في نقدها أو تطويرها, فهذه أزمة ثقافية خطيرة.
من الطبيعي أن تتشكل حياة المجتمع وفق اعتبارات عديدة ومتنوعة, ومن الطبيعي أن ينتج عن هذا التدافع بين هذه الاعتبارات علاقات متنوعة بين أفراد ذلك المجتمع, التي بدورها تشكل حركة المجتمع الكلية, ولكن المجتمع لا بد له من مرجعية يستمد منها الكليات والقيم والقناعات والرؤى التي تخط له المسار الذي عليه أن يسلكه في حركته. وكلما تحولت علاقة المجتمع بغير الله إلى علاقة مرجعية انعكس هذا خللا في ثقافته, وأصبح من السهل أن تخرج به هذه الثقافة المختلة في مرجعيتها من دائرة الإنسانية إلى دائرة التوحش واللإنسانية. وللحديث تتمة.