كيف تفسر الرؤية البيانية أنواع التأثير المشاهدة في العالم؟

هذا السؤال يطرح نفسه - كما بينا في المقال السابق - إزاء إنكار المتكلمين، القائلين بنظرية الجوهر الفرد، لفكرة "الطبع والطبيعة"، وبالتالي لمفهوم السببية كما كان يؤخذ بهما في العلم والفلسفة. وللجواب على هذا السؤال، من وجهة نظر هؤلاء المتكلمين، نشير أولا إلى أن هناك أربعة مفاهيم يوظفونها في هذا الشأن، وهي: الاعتماد، التولد، الاقتران، العادة.
أما الاعتماد فيفسرون به خواص الأجسام كالثقل والمدافعة والسقوط وأمثال ذلك كما ذكرنا في مقال سابق.
وأما التولد فيفسرون به التأثير وتسلسله في الأشياء، وهذا عند المعتزلة خاصة. وملخص رأيهم في الموضوع أن الأفعال، سواء كانت صادرة عن الله أو منسوبة إلى الإنسان، قسمان: أفعال مبتدأة أو مباشرة وهي التي تقع دون واسطة، (كرميك حجرا قصد تكسير زجاجة) وأفعال متولدة وهي التي تحدث بواسطة أو وسائط (كإصابة شخص بشظية من تلك الزجاجة المكسرة وإصابته بجرح بسببها)، وهم يسمون الوسائط أسبابا (وسنشرح هذا بعد حين). ثم إنهم يصنفون أفعال الإنسان صنفين: أفعال القلوب، مثل الإرادة والحب والكراهية والتفكير... إلخ. وأفعال الجوارح، وهي الصادرة عن أعضاء الجسم كالحواس واليدين والرجلين... إلخ... أما أفعال القلوب فهي عندهم مبتدأة كلها باستثناء "العلم" فهم يجعلونه من الأفعال المتولدة، لأنه يحصل في الإنسان بواسطة "النظر والاستدلال": قد يخرج الواحد منا من بيته ويبصر الشارع مبتلا فيستنتج من ذلك أن المطر قد نزل. فالعلم بنزول المطر فعل من أفعال القلوب (العقل) تم بواسطة الرؤية البصرية، ولذلك فهو متولد. وأما أفعال الجوارح فهي عندهم خمسة أصناف هي: "الآلام والتأليف والأصوات والأكوان والاعتماد... وفي كلها يثبت التوليد، وإن كان بعضها كما يثبت متولدا يثبت مبتدأ. وبعضها لا يصح أن يقع إلا متولدا". وبعبارة أخرى تنقسم أفعال الإنسان إلى ثلاثة أصناف: صنف لا يصح أن يفعله (الإنسان) إلا بسبب، أي بواسطة، وهو "الصوت والألم والتأليف"، وصنف يصح أن يفعله ابتداء كما يصح أن يفعله متولدا، وهو "الاعتماد (= الاهتزاز في المكان نفسه دون الانتقال إلى غيره) والكون (الوجود) والعلم"، والصنف الثالث لا يصح أن يفعله إلا مبتدأ، ولا يقع متولدا وهو "الإرادة والكراهية والظن والنظر وما كان من باب الاعتقاد الذي ليس بعلم، أي الذي لا يحصل باستدلال. ويدخل في هذا الباب الغرائز والميول الطبيعية والأهواء... إلخ).
وبالاستناد إلى هذا التقسيم، واعتمادا على منهجهم في الاستدلال بالشاهد على الغائب، جعلوا الفعل الإلهي صنفين كذلك: مبتدأ وهو ما يخلقه الله مباشرة من العدم بقوله "كن"، ومتولد وهو ما يفعله عبر سبب أو سلسلة من الأسباب –وسائط - كتلقيحه النبات بواسطة الرياح: "وأرسلنا الرياح لواقح" (الحجر: 22) وقد منع بعضهم أن تكون الأسباب هي التي تولد التأثير، فليست الرياح هي التي تلقح، بل إن فعل التلقيح عندهم فعل مبتدأ من الله نفسه، وهذا قول أبي علي الجبائي شيخ المعتزلة في عصره. وقد رد عليه تلميذه القاضي عبد الجبار أن قياس الغائب على الشاهد يوجب "التسوية" بين حالنا وحال الله في هذه المسألة. يقول: "إن الذي به عُرف أن أحدنا فاعل بسبب، فإذا حصل في فعل الله تعالى، فيجب القضاء بالتسوية في هذه الطريقة، كما أنه إذا كان الذي به يُعرف أن زيدا فاعل بسبب، إذا حصل في فعل عمرو، وجبت التسوية، ثم كذلك في سائر القادرين" بمن فيهم الله. ثم يضيف: "فإذا صحت هذه الجملة، وكان أحدنا إنما عرف أنه يفعل بسبب، فوقوع المُسبَّب بحسب أسبابه في القوة وخلافها: فيجب، إذا كانت حركة الرحى بالريح أو الماء نقف (بواسطتها) على قوة جري الماء وهبوب الريح، أن يقضي ما به تعالى فعله متولدا، كما أن دورانها لما اختلف بقوة المدبر لها من بهيمة أو غيرها وتضعفه، عرفنا أنه قد وقع متولدا، وهكذا الحال في جري السفينة بالريح أو بجذب الملاح لها... ومتى قيل: إنه تعالى يفعل ذلك ابتداء لم نأمن مثله في أفعالنا فيجب التسوية لا محالة".
وإذن فالقول بالتولد في أفعال الله، ليس الدافع إليه إثبات "الأسباب الثانوية" (التي تتسلسل عن "السبب الأول" = الله) - حسب تعبير الفلاسفة - بل بالعكس لقد كان الدافع إليه هو تجنب التسوية ما بين الله والإنسان بموجب قياس الغائب على الشاهد في هذا المجال، مجال الفعل والتأثير. ذلك لأنه إذا كان الإنسان يتصف بكونه مريدا وقادرا كما يتصف الله بهذين الوصفين، فإن هذا لا يوجب التسوية بينهما من هذه الجهة، لأن الله قادر بذاته، وبالتالي "يصح أن يخترع الفعل في غيره من غير سبب" أي دون واسطة. أما الإنسان فهو قادر بقدرة يخلقها فيه الله كلما أراد – الإنسان - أن يفعل (لأن القدرة عرض والعرض لا يبقى زمانين)، وبالتالي فلا يصح أن يفعل الإنسان إلا في محل القدرة المخلوقة فيه ولا يتعداه. فإذا أراد الرجل ضرب رجل آخر، فالله يخلق فيه القدرة على الضرب، بها يفعله. أما الألم الذي ينتج عن هذا الضرب ويحس به الرجل المضروب فهو فعل متولد. أضف إلى ذلك أن الله قادر على فعل ما لا نهاية له من الأفعال المتولدة، في حين أن ما يقدر الواحد منا عليه منها محدود. هذا علاوة على أن الواحد منا يفعل بآلات كاليد، ولحاجات، وقد يخطئ... بينما الله منزه عن كل ذلك.
تبقى بعد هذا طبيعة الفعل المتولد ذاته، وبالتالي حقيقة ما يعنيه المعتزلة بـ "الأسباب" التي يجعلونها وسائط بين الأفعال الصادرة عن القدرة، الإلهية أو البشرية، وبين الأفعال المتولدة... ولجلاء هذه المسألة لا بد من استحضار ما تعنيه كلمة "سبب" في الحقل المعرفي البياني. قال في لسان العرب: "السبب: كل شيء يتوصل به إلى غيره... وجعلت فلانا سببا لي إلى فلان في حاجة.. أي وصلةً وذريعة... والسبب: الحبل الذي يتوصل به إلى الماء (في البئر)، ثم استعير لكل ما يتوصل به إلى شيء، كقوله تعالى: "وتقطعت بهم الأسباب" (البقرة 166) أي الوصل والمودات". وإذن فالسبب هو الواسطة بين شيئين، وهو مجرد جسر، وهو غير "العلة" التي هي، (في الاصطلاح البياني ذاته وبالتحديد في أصول الفقه)، وصفًٌ أو معنىً يحل بالشيء فيوجب له حكما، (مثل الإسكار في الخمر، الذي أوجب فيه حكم التحريم).
هذا مجمل الكلام عن "التولد"، يبقى "الاقتران والعادة" موضوعا لمقالات مقبلة.

1

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي