"صناعة الخير" في أزمة!

في المجتمعات الراشدة، تتنافس الشخصيات البارزة، وتلك التي تتحكم برأس المال، في "معارك" الانتماء إلى الجمعيات الخيرية المعروفة منها وغير المعروفة. وتزداد حدة التنافس و"المبارزة"، في مناسبات جمع التبرعات، أو عند إطلاق مشروع هنا وآخر هناك مرتبط بهذه الجمعية أو تلك. وإذا كنت لا أشكك في نوايا هؤلاء الداعمين للخير، إلا أنني لا أستطيع أن أزيح المآرب الدعائية والتسويقية، عند المتبرعين الكبار، الذي يستطيعون ـ من خلال دعمهم الخيري ـ إضفاء هالة أخلاقية وإنسانية لمؤسساتهم وشركاتهم. والحقيقة أن السياسيين ليسوا بعيدين أيضا عن "هذه الصناعة"، تماما مثل المنظمات والأحزاب السياسية ـ وحتى الميليشيات ـ السرية وغير السرية، فكلهم يسعون للفوز بدعاية جميلة محببة ـ غير مباشرة - تلتصق بالإنسان واحتياجاته، لأنهم يعرفون أن الدعاية المباشرة ـ مهما عظمت ـ لا تخرج عن كونها، مادة إعلانية فجة، خصوصا إذا ما كانوا يواجهون الفشل في عملية "التسويق" الإعلامي.
وفي التاريخ كان هناك مجرمون ـ بل ومدمرون للمجتمع ـ يخوضون في "قطاع صناعة الخير"، عن طريق التبرعات والتكافل الاجتماعي، ومن خلال سلوك استثنائي، يؤمن لهم الوجاهة الاجتماعية والغطاء الإنساني. من بين هؤلاء ـ على سبيل المثال ـ آل كابون أشهر زعيم للمافيا الأمريكية، الذي كان يغرق المجتمع بكل الموبقات ويقتل ويعذب ويشوه، ويذهب لحضور حفل خيري، ينشر المال في أرجائه. وكذلك فعل الكولومبي بابلو أسكوبار المعروف بـ "ملك الكوكايين"، الذي بنى أحياء شعبية كاملة، لإيواء الفقراء، وقدم مساعدات هائلة للمحتاجين، أيضا من أموال جناها عن طريق تدمير المجتمع بإغراقه بالمخدرات، بل وإغراق مجتمعات أخرى في دول أخرى، في مقدمتها الولايات المتحدة بهذا السم. ولكي لا نذهب بعيدا، فإن المستثمر الأمريكي الشهير برنارد مادوف، الذي سرق أموالا وصلت إلى 65 مليار دولار، من بينها أموال لجمعيات خيرية، كان نجم التبرعات الخيرية، وكان لا يوفر فرصة للمشاركة والمساهمة في الجمعيات والمؤسسات ذات النفع العام!. لا شك في أن هذه العينات لا ينتهي توالدها بدخولها السجن ـ في حالتي آل كابون ومادوف ـ أو قتلها ـ في حالة أسكوبار ـ فهي موجودة ومتوالدة في كل أنحاء العالم، تمارس "الخير"، في زحمة ممارستها لأبشع أنواع الشرور.
بعيدا عن هؤلاء المجرمين، وعن مآرب المتبرعين، تعيش الجمعيات الخيرية بمجملها أزمة حقيقية، مع اندلاع الأزمة الاقتصادية العالمية. وإذا كان هذا الأمر ليس غريبا عن أزمة بهذا العنف وتلك القسوة، إلا أن القضية خطيرة، وتستحق المعالجة بأقصى قوة ممكنة، عالميا وإقليميا ومحليا.
قبل نهاية عام 2008، عانت في بريطانيا جمعية خيرية واحدة من كل أربع جمعيات شحا في التبرعات التي تجمعها، وأجبرت جمعية واحدة أيضا من كل 12 جمعية، على تسريح نسبة من موظفيها، لضغط النفقات. وحسب "مفوضية الجمعيات الخيرية" البريطانية، فإن جمعية خيرية واحدة من كل خمس جمعيات شهدت طلبا متزايدا على خدماتها، وأن أكثر من 38 في المائة من هذه الجمعيات تعرضت لضربات موجعة ومباشرة من الأزمة الاقتصادية. والذي يزيد الأمر تعقيدا، أن 54 في المائة من الجمعيات تعاني ارتفاع تكاليف التشغيل، جراء ارتفاع الأسعار بشكل عام، وارتفاع تكاليف التنقل والنقل والسفر. وأبقى في بريطانيا للإشارة إلى أن الجمعيات الخيرية فيها خسرت في غضون ثلاثة أشهر 120 مليون جنيه استرليني، نتيجة انهيار النظام المالي في أيسلندا. أزمة الجمعيات الخيرية لم تقتصر على نهايات عام 2008، بل انتقلت إلى عام 2009، بينما لا يوجد في الأفق أي مؤشر، على انتهاء محنتها في هذا العام على الأقل.
في الولايات المتحدة، وبقية دول العالم المتقدمة، تواجه الجمعيات الخيرية المصاعب والمصائب نفسها، والتهديد نفسه لمستقبل عملياتها، بل ولمصير بعضها كمؤسسات. يقول الشاعر الإنجليزي توماس جراي: "عندما تعاني حديقتك الجفاف، لا توجه المياه إلى خارجها". وقد تمسكت الشخصيات والمؤسسات التي اعتادت على التبرع "بنصيحة" الشاعر، أكثر من تمسكها بالمعايير الأخلاقية للسوق، عندما كانت هذه الأخيرة مفتوحة دون ضوابط تحكمها، وبذلك أنهت "روح" العطاء لديها. بالطبع لا يمكن لمن لا يملك أن يتبرع، وليس مطلوبا من فاقد الشيء أن يعطيه. لذلك فإن القضية تجاوزت الشخصيات الكبرى والمؤسسات، لتنتقل إلى "أحضان" الحكومات، التي تقاتل الزمن لنجدة المؤسسات المالية المنكوبة، ووضعت ـ مرة أخرى ـ مستقبل ومصير الجمعيات الخيرية، في ذيل قائمة الأولويات، على الرغم من أن عددا كبيرا من الجمعيات في الغرب تتخصص في حل أزمات المشردين، الذين ازدادوا عددا بفعل الشق العقاري للأزمة الاقتصادية. أي أن هؤلاء هم جزء من الأزمة، لا على هامشها.
وإذا كانت الحكومات في الدول المتقدمة توفر المأوى لهؤلاء المشردين، من يوفر الدعم المتناقص لجمعيات النفع العام، التي تعمل في الدول الفقيرة؟ فهناك المئات منها تعمل في مجالات مكافحة الأوبئة، وتوفير التعليم، وحماية البيئة، وعمليات الإغاثة، ومساعدة المعوقين، وتخفيف الجوع. هناك العشرات من هذه الجمعيات تعمل في مجال تأمين الكساء، في المناطق النائية التي يموت نسبة من سكانها ـ ليس من الجوع ـ بل من البرد. هناك العشرات أيضا من هذه الجمعيات، التي تعمل على توفير مياه الشرب، في مناطق يموت فيها كثيرون لفقدانهم المياه الصالحة للشرب الآدمي والحيواني في آن معا. من يوفر الدعم لهذه الجمعيات؟ ومن يسد العجز المالي فيها؟ فالمؤسسات الكبرى والصغرى باتت عاجزة عن القيام بواجباتها الخيرية، بل إن مؤسسات مثل شركة التأمين الكبرى "إى آي جي"، والمؤسسة المالية "بير ستيرنس"، ومجموعة "سيتي جروب" في الولايات المتحدة، أوقفت جمعيات خيرية تابعة لها، بفعل الأزمة الاقتصادية، وهناك مؤسسات أقدمت حتى على إلغاء الاحتفالات بأعياد الميلاد عام 2008، بسبب الشح المالي! وقد بدا هذا واضحا من خلال إعلان جمعية "الصليب الأحمر" الأمريكية، انخفاضا هائلا في حجم التبرعات التي تصلها، فإذا كان هذا هو حال واحدة من كبريات الجمعيات الخيرية المحلية في دولة تتمتع بأكبر اقتصاد في العالم، فما وضع الجمعيات الأخرى المتخصصة بالهم العالمي، لا المحلي؟!
مرة أخرى، لا مناص من تدخل الحكومات لإنقاذ الجمعيات الخيرية، ولا سيما تلك التي وصلت إلى الرمق الأخير، وبالتحديد الجمعيات التي تتعاطى بالشأن العالمي لا المحلي، فدور هذه الجمعيات لا يقل أهمية، عن دور المساعدات الخارجية التي تقدمها الدول الكبرى، التي تعرضت هي الأخرى للتراجع المخيف بفعل الأزمة، وقبلها.. بفعل سياسات إدارة الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن. وإذا كانت هذه الحكومات تدخلت وأنقذت ما يمكن إنقاذه من المؤسسات، بل وقامت بتأميم بعضها. لماذا لا تقوم بتأميم القطاع الخيري لهذه المؤسسات؟ أنا لا أطالب بتأميم كلي للجمعيات الخيرية، فمثل هذه الخطوة، ستقضي على الميزة الأهم التي تقوم عليها هذه الجمعيات، وهي الاستقلالية، لكن المطلوب هو أن يشمل الدعم المالي (أو التأميم)، الجانب الخيري للمؤسسات المالية المنكوبة، أي سد النقص فقط، دون أي نوع آخر من التدخل.
إن خطوة كهذه لن تؤدي فقط إلى توفير الآليات الإنسانية للمحتاجين والمنكوبين والجائعين والمتألمين، وأولئك الذين يخرجون من وباء ليدخلوا في آخر، بل ستقدم للحكومات أنسب هدية تحتاج إليها في الوقت الراهن. هدية تتراجع أمام قيمتها كل الهدايا. هدية تضع الضمير الحكومي في الصدارة، لا خلف الأبواب المغلقة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي