"أخو عمشا" والإعانات الحكومية

القصة الرمزية أدناه هي ختام سلسلة المقالات المتعلقة بالآثار السلبية للتدخل الحكومي وهدفها توضيح فكرة مفادها أن التدخل الحكومي، حتى لو كان على شكل إعانات، له آثاره السلبية على الاقتصاد، وأن له نتائج سلبية غير مقصودة. والفكرة الأساسية للقصة أن كل إنسان عنده دوافع خاصة لتعظيم منفعته، وهذه الدوافع لا ترتبط بعرق أو دين أو لون أو ثقافة أو حتى درجة التعليم.
دخل فليحان إلى بيته الطيني المهترئ الجدران مسرعا وهو ينادي زوجته: "عمشا.. يالله يالله اجمعي الأولاد، الحكومة وصلت، وأنا سأذهب إلى بيت أختي "وضحى" لأحضر أبناءها عندنا"، وخرج من البيت مسرعا كما جاء وهو يقول "جهزي القهوة، والعشاء أيضا"، ثم أردف مخاطبا نفسه وهو يبتسم بخبث: "والله أنهم يستاهلون كل خير". بدأت عمشا تنادي أولادها الأربعة، وهي تفكر بـ"الفلوس" التي ستقدمها الحكومة لعائلتها. فقد سمعت من عمتها أم محماس أن الحكومة بدأت بتوزيع الأموال على سكان الهجر والقرى. تنهدت ثم دعت للمسؤولين بالصحة وطول العمر.
كانت "عمشا" تفكر، وهي مبتسمة بما يمكن أن تشتريه بالمال الذي ستقدمه لهم الحكومة، وبدأت تحلم، رغم الضجة التي سببها اجتماع أولادها، مع اثنين من أولادهم عمهم. ولم يقطع مسلسل أحلامها إلا صوت "وانيت" فليحان والغبار الذي خلفه على الطريق الرملي. نزل فليحان مبتهجا وطلب من أولاد أخته الستة النزول. وسرعان ما تعالت الأصوات في باحة المنزل الصغيرة، بينما خرج فليحان إلى الطريق في انتظار "اللجنة"، وكان قد شاهد سيارتها عندما كان عائدا من بيت أخته واقفة أمام بيت أحد أبناء عمومته.
مر نصف ساعة، وكأنها دهر، وفجأة سكت الأولاد عندما سمعوا فليحان يقول "ياهلا والله، ياهلا والله" ركضوا إلى الباب ليجدوا فليحان واقفا في الشارع وهو ينظر إلى سيارة قادمة من بعيد تجر وراءها جبلا من الغبار. قال ابنه الكبير "من تكلم يا والدي؟ لا أرى أحدا" ضحك فليحان بسعادة وقال: "ياهلا بالحكومة، ألا تراهم قادمين؟".. نظر الطفل إلى الأفق البعيد إلى السيارة القادمة، ومنذ ذلك الوقت اقترنت صورة الحكومة في ذهنه بصورة السيارة!
وصل أعضاء اللجنة، ترجلوا من سيارتهم، كانوا ثلاثة، صافحوا فليحان وبعض الأولاد. كان الإعياء ظاهرا عليهم من التنقل بين القرى والهجر طوال اليوم. طلب منهم الدخول، ثم الجلوس لشرب القهوة، ولكنهم رفضوا. أخبروه بأنهم على عجلة من أمرهم، ثم قال أحدهم وهو يمسك دفترا كبيراً وهو يسجل إجابات فليحان: اسمك الكامل؟.. كم عندك ولد يا فليحان؟ نظر فليحان إلى الموظف، ثم نظر إلى الأولاد، وقال: "عدهّم"! عد الموظف الأول الأولاد، "ما شاء الله 12" قالها وهو يكتب، في الوقت نفسه أكد الموظف الآخر أن العدد 12. "عندك إبل يافليحان؟". "لا والله ما عندي، الله كريم". "عندك غنم يا فليحان؟" أجاب بسرعة "نعم.. عندي 200 رأس"، ولكنه تذكر أن له عند أبيه 300 رأس، فقال مستدركا: "قصدي 500، نعم.. نعم 500 رأس طال عمرك". وهنا قال أحد أعضاء اللجنة: "نريد أن نعدهم.. لكننا تأخرنا اليوم، وسنرجع في وقت آخر". بدا الخوف على وجه فليحان خشية أن تنكشف كذبته، ولكنه استعاد جأشه عندما أقنع نفسه بأنه يمكن أن يجمع غنمه مع غنم أبيه إذا اضطر الأمر. ثم غادرت سيارة الحكومة مخلفة وراءها جبلا من الغبار كما أتت. أراد أن يدخل البيت، ولكنه تذكر أن عليه إعادة أولاد أخته إلى بيتهم، فطلب منهم أن يركبوا "الوانيت"، وعاد بهم إلى بيتهم.
عندما عاد إلى البيت وجد وانيت "صليخان"، شقيق زوجته واقفا أمام الباب. استعاذ بالله سرا وهو يقول لنفسه: ما الذي أحضر هذا "العلة"؟ كان تساؤله في محله؛ لأن "أخو عمشا" لا يأتي لزيارتهم إلا إذا كان في الزيارة مصلحة. دخل البيت وسلم على الجميع ورحب بصليخان. وبعد أن تبادلا عبارات السلام والترحيب، قال صليخان: "سمعت أن الحكومة زارتكم اليوم.. والله لقد أحسنت عندما قلت لهم أن عندك 12 ولدا، مع أنه ليس لديك سوى أربعة".. قالها بخبث.. ثم أردف: "انظر يا فليحان.. الناس لبعضها.. ومثل ما وقفت أختك معك.. أريدك أن تقف مع أخيك صليخان". أجاب فليحان مسرعا: "آمر، عسى يكون خير"، أجاب صليخان والابتسامة تغطي وجهه: "كله خير، كله خير". ثم قال: "اللجنة ستزورنا يوم الأربعاء، وأنا أريد أن أستعير منك عيالك، وغنمك، ولو وافق أبوك سأستعير منه غنمه يوما أو يومين. وسأردهم بعد ما تعدّهم اللجنة وتذهب". بدا الامتعاض على وجه فليحان، ولكن "عمشا" أجابت أخاها بسرعة: "إبشر، لم تطلب غاليا" ثم دعت له بزيادة الرزق. كان فليحان يتمزق غيظا، فهو يعرف ان "أخو عمشا" "لعّاب" ولا يؤمن جانبه. سافر كثيرا ويتردد على المدينة باستمرار، كثير المشكلات والديون.
قطع صليخان سلسلة أفكار فليحان قائلا: "انظر يا فليحان.. أخوك صليخان إذا لعبها لعبها صح.. ألا تعلم ماذا سأفعل؟".. رد فليحان في عجب: "لا.. لا أعلم!". ابتسم صليخان قائلا: "أحضرت عمالا ليزرعوا نخلا أمام البيت وحوله بشكل مؤقت وإذا أتت اللجنة ستصرف لي إعانات النخيل. هل تصدق أنني استأجرت النخل يومين بمئتي ريال، والحكومة ستعطيني إعانات نخل 1500؟ يعني سأربح 1300 ريال في هذين اليومين" ثم تابع "ابن خزّيم يؤجر النخل، وعنده عمال وآلات كبيرة، وينقل النخل من مكان لمكان، وسمعت أن هذه الفكرة صارت تجارة رابحة كسب من ورائها ملايين".
"تعرف يا فليحان، والله إني أفكر أن استأجر إبلا أيضا، يقولون إن الحكومة تدفع 300 ريال على كل بعير.. ولي قريب في هجرة البعارين عنده أكثر من ألف، والناس تستأجر من عنده قبل أن تأتي اللجنة، ثم يرجعونها له". سكت صليخان، وبدأ يحملق في الجدار، وابتسامة صفراء اكتست وجهه. بعد العشاء قرر صليخان الذهاب، وعند الباب قال: "لماذا لا تُحضر أنت العيال إلى بيتنا يوم الأربعاء، لأني سأكون مشغولا باللجنة".
يوم الأربعاء، ذهب فليحان مع أولاده إلى الهجرة التي يعيش فيها صليخان، وعندما اقترب منها، رأى عجبا: عدد كبير من الإبل والغنم، بشكل لم يشاهده من قبل. وما إن اقترب من بيت صليخان حتى زاد عجبه، أشجار النخيل تحيط به من كل مكان. كان هناك أولاد كثيرون يلعبون أمام منزل صليخان، وفي باحة البيت. ركض أحد أولاد صليخان الثلاثة يناديه ليخبره بقدوم فليحان وأولاده، خرج صليخان مرحبا بصوت عال، والفرح ظاهر في وجهه: ياهلا، جئتم وجاء الخير.
بعد ساعات جاءت اللجنة، وقام أخو عمشا بالترحيب بهم والثناء عليهم، ثم أجاب عن الأسئلة: عندي 22 ولدا، وألف رأس غنم و200 ناقة. ثم رفع يده مشيرا إلى شجرات النخيل الباسقة التي زرعت في اليوم السابق قائلا: وهذا شجر النخيل أنتم عدّوه. بعد أن ذهبت اللجنة، جاء عم صليخان ليأخذ أولاده، وهم جزء ممن ادعى صليخان أنهم أولاده هو، وفي معرض الحديث عن اللجنة أخبر صليخان فليحان أنه فعل تماما مثلما فعل صليخان، ثم ضحك قائلا: المشكلة أن الأولاد ينتقلون من بين إلى بيت وخفنا أن تكشفهم اللجنة. ثم دعا صليخان فليحان إلى عرس ابنه في اليوم التالي.
عندما جاء فليحان وعائلته في اليوم التالي إلى الهجرة التي يعيش فيها أخو عمشا لحضور العرس، ذهل مما رآه: صحراء قاحلة.. اختفت شجرات النخيل، والغنم، والإبل. حاول أن يشرح لزوجته ما رآه في اليوم السابق، ولكنها ظنت أنه يهذي. حاول أن يؤكد لها أن أخاها ادعى أن عنده 22 ولدا وألف رأس غنم، و200 ناقة، فبدأت تضحك قائلة: إذا كان كلامك صحيحا، أين كل الذي ذكرته. حاول أن يشرح لها أن الأشجار والغنم والإبل تنتقل من هجرة لأخرى ومن قرية لأخرى بسبب الإعانات الحكومية. حاول أن يشرح لها أنهم مثلما استعاروا أولاد أخته قام الناس باستعارة كل شيء تدعمه الحكومة. حاول أن يشرح لها أنه حتى الاستعارة توقفت وتحولت إلى تجارة. لكنها استمرت في سخريتها. هز رأسه قائلا: "والله ما فهمها إلا أخو عمشا".
في نهاية العام، في العاصمة، قال أحد المسؤولين الشباب الذي عادوا إلى الوطن بعد دراستهم في أمريكا: هذا أمر عجيب، كل الأرقام التي لدينا تشير إلى أن عدد السكان أكبر بكثير مما تنشره الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي. حتى أعداد الغنم عندنا أكثر من أستراليا، وعدد أشجار النخيل أكثر من العراق. هل يعقل أن يكون لدينا هذه الثروات الهائلة التي تجعلنا في المراتب الأولى في عدد الغنم والإبل والنخيل؟ قال له زميله إن هناك مؤامرة عالمية تستهدف تقليل قدرات وثروات المسلمين، وأن الأرقام التي جمعتها لجان الإعانات هي الأصح.
جاءت الموازنة الجديدة للحكومة أكبر من أي وقت مضى. وبناء على هذه الموازنة، تم التخطيط لبناء مجمعات سكنية ضخمة للأعداد الكبيرة التي لم تكن الحكومة تحسب حسابها. تم بناء مزيد من المدارس والمستشفيات لمقابلة طلبات الملايين من الناس الذين لم يحسبوا من قبل.
انتهى البناء، ولم يأت أحد. قامت الحكومة بتوظيف خبراء عالميين لمعرفة السبب. ديفيد البريطاني قال لهم إن البدو يحبون الحياة القاسية في الصحراء، جورج الأمريكي قال لهم إن البدو لا يحبون العيش بالقرب من بعضهم بعضا، أما طوني، وهو عربي مقيم، قال لهم إن البيوت ليست بجهة القبلة. بعد عشر سنوات قامت الحكومة بأول تعداد رسمي، واكتشفت أن عدد السكان أقل من المتوقع بخمسة ملايين. لقد ضخمت الإعانات حجم السكان، وعدد النخيل، وعدد الغنم، وعدد الإبل. كانت النتيجة أن الوحيد الذين فهم اللعبة هو أخو عمشا وأمثاله، لقد ضحكوا على الجميع، حتى على ديفيد وجورج وطوني. لقد فهم أخو عمشا أثر الإعانات على سلوك الأفراد، ولم يفهمه حتى خريجو الجامعات الأجنبية، بمن فيهم ديفيد وجورج وطوني. لقد خسرت الحكومة المليارات على الإعانات وآثارها، فدفعت إعانات على الأطفال أنفسهم الذين انتقلوا من بيت إلى بيت، ودفعت الإعانات على الغنم والإبل والنخل عدة مرات. حتى النخل الباسق انتقل من بيت إلى بيت.
كان فليحان يتعجب دائما من ذكاء "أخو عمشا" لأنه حتى عندما قررت الحكومة أنها لن تعطي الإعانات إلا بوجود أوراق ثبوتية، استمر صليخان في الحصول على إعانات إضافية لأنه قام بتسجيل ميلاد أولاده الذي لم يولدوا إلا بعد سنوات منذ ذلك التاريخ. لذلك عانى أولاد صليخان معاناة كبيرة في المدارس فيما بعد؛ لأن الأوراق تشير إلى أن واحدا منهم عمره 9 سنوات، ولكن مظهره يدل على أنه لم يتعد السنوات الخمس. وهنا تذكرت مقالا نشرته إحدى الصحف يستغرب من كثرة المواليد في شهر رجب.
لا تلوموا أخو عمشا وأمثاله، بل لوموا التدخل الحكومي والإعانات الحكومية. لقد كان أخو عمشا أذكاهم!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي