الوحدة الاقتصادية العربية .. حقيقة أم خيال؟

يعاني العمل الإقليمي العربي من مشكلات خطيرة تهدد الأمن القومي وتجعل العمل الإقليمي مستحيلا دون أخذها بالاعتبار، ومن أهم هذه القضايا: التفوق الإسرائيلي عسكريا وتقنيا واحتكار إسرائيل للسلاح النووي ليبقى حكرا عليها، والهيمنة الأمريكية ووجودها العسكري الكثيف في المنطقة واستمرار تدمير الاقتصاد العراقي بأيد عابثة أمريكية وبريطانية وضعت ضمن تخطيط تخريبي منظم، كل ذلك في ظل العجز الرسمي العربي وتهديد السيادة الوطنية للدول العربية في البحر الأحمر والعراق والسودان ولبنان والصومال.
لماذا يعجز العرب عن الوحدة أو التكامل والتعاون والعمل الإقليمي العربي على الأقل؟
سيلاحظ القارئ الكريم أن الحديث عن الوحدة الاقتصادية سيجرنا قليلا إلى قضايا سياسية وهو الوجه الآخر من العملة ولا انفصال بينهما, بل أستطيع أن أجزم أن سبب تعثر الوحدة الاقتصادية العربية هو سياسي أكثر منه اقتصاديا, هل هو مخطط خارجي مفروض أم هي المصالح القطرية الضيقة الآنية التي تعجز عن رؤية المصالح الاستراتيجية الكبرى؟
لقد كشف التفرد الأمريكي في قيادة العالم حدة الانكشاف الذي يلازم الدولة القطرية وضاعف من جسامة الخطر الصهيوني تصاعد العجز في قدرات الدولة القطرية وخاصة في مجال الأمن, ورغم الاختلاف والانقسام بين العرب حول الموقف من الصراع العربي الصهيوني فقد بقي هذا الصراع أهم حافز ومنبه لقيام نظام عربي يواجه هذا التحدي, ولكن الصراع العربي الإسرائيلي رغم قوة تأثيره ودافعيته لم يكن كافيا لعمل دفاعي وإقليمي أو توحيد البرامج والخطط وتنسيقها إلى مستوى فاعل ومؤثر، إلا أنه يبقى مع ذلك من المسائل الإيجابية التي تدفع العرب إلى محاولة التنسيق واللقاء, على أن القضية المهمة والضرورية لحياة الأمة العربية وإخراجها من براثن التخلف الاقتصادي التي وقعت فيها طوال نصف القرن الأخير هي قضية استرداد الأموال العربية من الخارج البالغ قيمتها حسب تقديرات المؤسسات الدولية ما يقرب من أربعة تريليونات دولار مستثمرة بالخارج على هيئة ودائع وأوراق مالية وشركات صناعية وعقارات سكنية ومحال تجارية ومطاعم وملاه وفنادق, وإن غادر بعضها أمريكا إلى موطنه الأصلي بعد انفجار برجي التجارة, لكن الأزمة المالية الحالية ذات طابع عالمي وليس إقليمي فلم تؤثر في موطن الأموال كما حدث في السابق, على كل لقد واجهت هذه الأموال صعوبات كبيرة في الخارج تفوق الصعوبات التي واجهتها عندما كانت مستثمرة في المنطقة العربية في الستينيات والتي أدت إلى تحويلها إلى الخارج على مدى الـ 40 سنة الأخيرة أي منذ أن بدأ البترول يتدفق بوفرة في المنطقة العربية, ذهبت هذه الأموال للاستثمار في الخارج تنشد المزايا العديدة التي كانت تتوافر لها قبل التحديات المؤلمة التي واجهتها هناك خلال الـ 20 سنة الأخيرة، وبالتحديد بعد اتساع النزاع العربي الإسرائيلي وغزو العراق للكويت وما تبع ذلك من عوامل سلبية أدت إلى تجميد جزء كبير من هذه الأموال وفرض الحراسة على جزء آخر منها بسبب مراقبة غسيل الأموال واستخدامها في الإرهاب.
هل تستحق الوحدة الاقتصادية العربية أن يكون لها الأولوية على باقي القضايا خصوصا بعد أن تم تأجيلها إلى ما بعد التحرر من الاستعمار والصهيونية؟ لقد كانت النتيجة أن الاستعمار أصبح مضاعفا, بدل أن كان في فلسطين وحدها أضيف إليها العراق, وأصبح العرب في حاجة إلى حركة تحرر عربي ثانية ضد الاستعمار والصهيونية حتى يقفوا على أقدامهم سياسيا ومن ثم اقتصاديا, وما دام العرب قد قبلوا ديمقراطية الاحتلال في العراق كنموذج, فنرجوا ألا يكون الدور قادم على دول أخرى بدرجة يتم فيها تفتيت الاقتصادات العربية, وعلى الرغم أن الجامعة العربية اتخذت قرارا بإنشاء سوق عربية مشتركة منذ عام 1970 فإن هذه السوق مازالت فكرة تناقش في كل اجتماع للمجلس الاقتصادي والاجتماعي العربي, وقد اتخذت القمة العربية عام 1996 قرارا بإنشاء منطقة تجارة عربية حرة وفق برنامج تنفيذي يمتد لعشر سنوات تكون هذه السوق قد بدأت فعليا وهيئت لها التشريعات والإجراءات والبنى والاتفاقيات اللازمة, ولكن لا يبدو حتى الآن أن ثمة خطوات ملموسة تتحقق في هذا الاتجاه في ظل الشكوك التي تحوم حول آلية جامعة الدول العربية للوقاية من النزاعات وإدارتها وتسويتها, حيث كلف المجلس الاقتصادي والاجتماعي للجامعة باتخاذ ما يلزم لإقامة منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى وفق برنامج عمل وجدول زمني يتفق عليهما، ولكن مجلس الجامعة العربية قرر إحالة المشاريع الثلاثة إلى اللجان السياسية والقانونية.
وحيث تشير الدراسات الأكاديمية التي تبحث في أهمية العمل العربي المشترك باعتباره الطريق إلى الوحدة الاقتصادية العربية وإلى اندماج الاقتصادات العربية وإيجاد التكامل الاقتصادي العربي, لأن الوطن العربي يحتل موقعا استراتيجيا بين دول العالم وينتج 5.20 مليون برميل نفط خام يوميا, وكما في العراق الذي جرد من حاضره وجرد أيضا من ماضيه بإجهاض صناعته الوطنية وبنهب المتاحف وقضي على مستقبله بسلب الجامعات ومراكز البحث العلمي ودور الحكمة حتى كاد يصبح العراق بلا هوية ليغدو مجرد فضاء فارغ لقوى الهيمنة الجديدة, في حين بحث اليهود العراقيون الذين هاجروا إلى فلسطين بعد إعلان قيام دولة إسرائيل عام 1948 عن ممتلكاتهم وأموالهم في العراق دون أن يكون للفلسطينيين الذين اضطروا إلى الفرار من مذابح العصابات الصهيونية الحق نفسه في العودة إلى الوطن واسترداد الممتلكات والأموال وتم الاستحواذ على ثروات العراق بأكملها والتحكم فيها وتحصيل الأموال العراقية بدعوى الإعمار وتوزيع الغنائم والامتيازات والعقود على الشركات الأمريكية بهدف إنعاش الاقتصاد الأمريكي، لم يبق من التجمعات الإقليمية العربية المتماسكة سوى تجربة مجلس التعاون الخليجي وهو الأكثر نجاحا في شبه الجزيرة العربية وقدرة على الاستمرار، فمنذ قيامه عام 1981 واجتماعاته على جميع المستويات التي تنعقد بانتظام في ظل قدرة إدارية مشهود لها في حل القضايا بين الدول الأعضاء, بل تحويل هذه المشكلات أو الخلافات إلى نجاحات حقيقية وأبرز مثال على ذلك احتواء الخلاف البحريني القطري وتحويله إلى مكسب لهما بإشراف ومساعدة الشقيقة الكبرى المملكة العربية السعودية, حدث ذلك بعد أن أعلنت الدولتان عن وضع دراسة للربط البري بينهما عبر جسر يجري العمل على تنفيذه، وأمكن أيضا إنهاء عدد من النزاعات الحدودية بين الدول الخليجية, والحديث آت عن التكامل الاقتصادي الخليجي والوحدة النقدية الخليجية والتعريفات الجمركية وتسهيل حركة التنقل وغير ذلك, مجلس التعاون الخليجي هو تكتل إقليمي وما زال يدفع باتجاه أن حلم الوحدة الاقتصادية العربية يجب أن يتحقق.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي