الغزو الاقتصادي الأمريكي للعراق

تتمثل أخبار العراق منذ غزو الولايات المتحدة له عسكريا سنة 2003 في أنباء الانفجارات والقتلى من الطرفين، وبطريقة أفلام المغامرات الأمريكية Action أصبحت الشهية الإخبارية مفتوحة لتلقي أعداد ضحايا العنف الذي ما زال يعصف بالعراق المسكين منذ حلت جحافل السلام للقضاء على التوتر وإقرار الحريات وتحرير الشعب من الطاغوت، وبعد أن مات رمز النظام على مشنقة المحتل لم نشاهد أيا من الأحلام تتحقق، ولم نصادف اللبن والعسل الموعود، ولم نستمتع بالحلم الأمريكي وإنما أصبح الجميع تحت مظلة الكابوس الأمريكي. ولأن الولايات المتحدة دولة عظمى، فهي لم تحضر لتستعرض أو تحتفل، وإنما جاءت لتستفيد وتنتفع فوق أشلاء وجماجم الغير كما استمتعت بوطنها المترامي الأطراف على أشلاء الهنود الحمر والتعبير الذي يردده الأمريكيون منذ عهد مشاركتها في الشأن العالمي وتحديدا مع الرئيس وودرد ويلسون الشريك الرئيسي في معاهدة فرساي سنة 1919 هو المصالح الأمريكية American Interests وهو تعبير مطاط مبهم وغامض ويتسم بالمرونة بحيث يستوعب أي شيء يرى الأمريكيون أهمية سرقته أو اغتصابه أو الحصول عليه.
ومنذ اللحظات الأولى التي صاحبت الغزو الأمريكي الباطش للعراق، لم يفت أي أريب المغزى والسلوك الذي مارسه الأمريكيون والذي تمثل في تدمير الرموز الحضارية للعراق وتحريض أعوانهم على سرقة المتاحف وقيامهم بنهب كل ما غلا ثمنه وارتفعت قيمته دون النظر إلى وزنه، حيث تم نهب ما خف وزنه وما ثقل. وظن السذج أن عمليات النهب المنظم هي نهاية المطاف أو هي غاية حلم الغزاة، كما كان يحدث في الماضي: حرب ثم سحق للعدو ثم نهب منظم واغتصاب للنساء واسترقاق للصبية وقتل للرجال، ولكن متابعة الأحداث كشفت الأسرار وألجمت عملاء وكالة الإعلام الأمريكية والمبررين لغزو بلادهم وأظهرت أن المؤامرة كبيرة والغنيمة تستحق تحريك آلاف الجنود من قارات إلى أخرى، ففضلا عن تطمين الحبيب الغالي والعميل الدائم إسرائيل فإن الجائزة الاقتصادية هائلة.
ولكي تعطى الشرعية لعمليات الاحتواء والنهب فقد تم زرع العديد من المواد في الدستور العراقي لتلزم العراقيين بالمضي قدما حسب جدول أعمال بوش وحلفائه من الصهاينة والمحافظين الجدد. وتنص هذه المواد على تخصيص المشاريع العراقية التي كانت ملكا للدولة واتباع سياسة بوش الاقتصادية.
وقد أصدر بريمر الحاكم العام الأمريكي السابق للعراق تعديلات على نص الدستور العراقي على الوجه التالي:
المادة 25: تتعهد الدولة بإصلاح الاقتصاد العراقي وفق المبادئ الاقتصادية الحديثة لضمان استثمار موارده وتنويع مصادره وتشجيع وتنمية القطاع الخاص.
المادة 26: تضمن الدولة تشجيع الاستثمارات في القطاعات كافة وسوف يتم تنظيم ذلك بإصدار قوانين مناسبة.
ونود مقارنة هاتين المادتين بمادتين مستمدتين من الدستور العراقي الصادر سنة 1970 وهما:
المادة 12: تتحمل الدولة مسؤولية التخطيط وتوجيه وتسيير الاقتصاد القومي لتحقيق هدفين رئيسيين، هما:
أ ـ بناء النظام الاشتراكي على أسس علمية ثورية.
ب ـ تحقيق الوحدة الاقتصادية العربية.
المادة 13: يمتلك الشعب الموارد الوطنية ووسائل الإنتاج كافة ويتم استثمارها مباشرة من جانب السلطة المركزية في جمهورية العراق حسب متطلبات التخطيط العام للاقتصاد الوطني.. ومعنى ذلك أن العراق ملتزة بمواصلة عملية "الإصلاح" الاقتصادي باتباع "المبادئ الاقتصادية الحديثة" وهو ما يعني شيئا واحدا فقط وهو السير على مبادئ السوق والعولمة وهيمنة المؤسسات الاقتصادية العملاقة والشركات متعددة الجنسيات التي تمشي في ركاب واشنطن مع دحض المبادئ القديمة التي تتحدث عن الرخاء الاجتماعي ومساعدة الضعفاء ودعم الفقراء والتي كانت قلب وقالب الاقتصاد العراقي السابق. وتشير عبارة تنويع الموارد وتشجيع وتنمية القطاع الخاص إضافة إلى المادة 26 المذكورة آنفا إلى الاستثمار الأجنبي في القطاعات كافة. أما عبارة "وسوف يتم تنظيم ذلك بإصدار قوانين مناسبة" فهي تعني أن القانون سيحدد ويلزم بحجم هذا الاستثمار وضوابطه. وهذه القوانين تم وضعها بالفعل إما في شكل تعليمات بريمر أو أوامر العمل التي يضعها خلفاؤه ويسلمونها للحكومات حتى تكسبها الشرعية. وحتى لا يحتار قارؤنا العزيز فإن هذه القرارات والتعليمات تغطي الاستثمار في قطاعات الاقتصاد كافة ما عدا الاستخراج الأولي للمادة الخام وهذه لها ملف خاص.
ومنذ رحيل برمير القائد الحديدي للعراق المحتل تمت صياغة أوامر تنفيذية متعددة، بل إن بعضها ألغى قليلا مما وضعه بريمر، ولكن المادة 26 "تشجيع الاستثمارات في القطاعات كافة " محورية وحيوية للأمريكيين ورؤوس الأموال التابعة للمحافظين الجدد وشركاتهم "ماكدونيل دوجلاس وبيكتل وغيرها) ولذلك فلا يستطيع مسؤول أمريكي أو محلي المساس بها، أما الجزء الثاني من المادة 27 والتي تنص على تخصيص ممتلكات الدولة والذي ينص بالحرف على:
"إن جميع التنظيمات المتعلقة بالمحافظة على ممتلكات الدولة وإدارتها وكفالة الظروف اللازمة لتنفيذها وتحديد أي ممتلكات يمكن التنازل عنها ـ سوف يتم ضبطها بالقانون وبعد تقليب الصفحات العديدة للأوامر والتعليمات التي أصدرها الأمريكيون وهي كثيرة للغاية، وجدنا أن هذا القانون قد صدر بالفعل على يد بريمر العتيد الذي لم يخرج من العراق إلا بعد أن جعله فريسة حبيسة رهينة ومقيدة بمئات القيود التي تضمن بقاءه مستعمرة اقتصادية مدى الحياة، حتى بعد انسحاب القوات الأمريكية من الأراضي العراقية، ذلك أن بريمر فتح الباب على مصراعيه لتخصيص كل المشاريع الحكومية العراقية وقد يكون هناك من التشريعات ما يتناقض مع التخصيص، ولكن قانون بريمر الذي حقنه في الدستور العراقي "الجديد" أكسب التخصيص الدستوري اللازم لبقائه.
وقد فشلت جميع محاولات أعضاء البرلمانات العراقية لوضع مواد تكفل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين العراقيين وإكسابها قوة ومن ثم تنفيذها. ولكن جميع محاولاتهم ضاعت أدراج الرياح ولم تتجاوز مرحلة المسودات. وهو ما يؤكد أن التخصيص وفتح باب الاستثمار للأجانب وبيع المؤسسات الحيوية لهم جزء لا يتجزأ من استراتيجية عاتية لدولة كبرى لا تقبل المزاح في خططها "ومصالحها الحيوية" والولايات المتحدة تعتبر خيرات العراق غنيمة حرب لا تسمح لحمل أو ذئب بالاقتراب منها.
وبينما يكفل الدستور العراقي الصادر سنة 1970 تغطية صحية مجانية لأبناء الشعب العراقي وتعليما مجانيا ودعما للأمومة والطفولة فإن الضمان الوحيد الذي ورد في دستور 2005 والذي يريد منه المحتل ورجاله إثبات "حسن نيتهم" هو التعليم المجاني مع بعض الضمانات المحدودة في مجال الرعاية الصحية وفي ظروف محددة قهرية يحددها القانون. ويقول المراقبون إن عدد المؤسسات الصحية الأمريكية التي تتولى إدارة المستشفيات وبيع الأدوية كبير للغاية، وهو بحاجة إلى التوسع خارج الولايات المتحدة، حيث أدت المنافسة المستعرة إلى انخفاض معدلات الربح، فضلا عن تقلب السياسات العلاجية الأمريكية باعتبار الرعاية الطبية ورقة مهمة في أيدي مرشحي الرئاسة ومرشحي الكونجرس ومرشحي حكام الولايات، مما يعني أنها لا تتمتع بثبات ربحي يتفق مع فكر المحافظين الجدد وهم أكثر الأمريكيين تعطشا لإنشاء الإمبراطورية ولو من دماء الآخرين.
ورعاية لجميع هذه المكاسب الهائلة، فليس من المتوقع أن ينسحب الأمريكيون من العراق، وسيختلقون الأعذار الكاذبة على غرار وجود أسلحة نووية عراقية، وعلى نمط التحالف بين القاعدة وحلف البعث!! وعلى وتيرة الضراوة الإيرانية التي تحرك المقاومة بالمشاركة مع سورية إلى آخر قائمة يتم تصنيعها بالمشاركة مع إسرائيل "الخبير الإقليمي ومستشار الاحتلال الأمريكي"، مما يتيح استمرار القوات الأمريكية. والهدف الأسمى وربما الأوحد هو حماية الغنيمة الكبيرة، ولذلك ارتفع عدد القوات إلى 185 ألفا وتم تأسيس أربع قواعد عسكرية أمريكية كبيرة في العراق. ويقول الخبراء الأمريكيون في معرض تبرير ذلك لدافع الضريبة الأمريكي إن هذه القوات هي لحماية النفط العراقي وضمان تدفقه وتدفق أرباح بيعه إلى أمريكا، ولذلك يبقى الاهتمام الأعظم للشركات الأمريكية هو زرع حكومات عراقية كفيلة بتوقيع أي اتفاقيات تريدها أمريكا. وبقاء الجيش الأمريكي يخيف هذه الحكومات ويؤمن أنابيب النفط والمرافق والسفن ويكفل الحصول على كل شيء شرعا وقانونا بتوقيع الحكومات العراقية المنتقاة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي