وحدة ما يغلبها غلاب

[email protected]

من المنطقي أن نرتب بيتنا الاقتصادي من الداخل قبل أن نلحقه بتعاون أو تكامل اقتصادي إقليمي خليجي. تتحدث دول الخليج عن مثاليات تتعلق بالتكامل الاقتصادي، وتنسي الواقع وتغرق أحيانا في الأحلام والمجاملات. بل نرى في أحيان أخرى خللا في ترتيب الأولويات الاقتصادية. فنجد البعض يتحدث عن وحدة نقدية قبل بناء السوق المشتركة ونتكلم عن السوق المشتركة قبل الاتفاق والالتزام حتى في اتحاد جمركي واحد.
أعتقد أن زمن المجاملات قد ولى، في وقت أضحت فيه التحديات الاقتصادية تتوالى، فيما تطور الأحداث يؤكد أن المصالح الاقتصادية ليست متطابقة في كل الأحوال. وخير دليل على ذلك خروج البحرين عن أبسط درجات الوحدة الاقتصادية عندما خالفت اتفاقية الاتحاد الجمركي المتفق عليها بين دول الخليج العربية قبل سنوات قليلة. لذا علينا أن نتعامل بواقعية مع التحديات التي تواجهنا، فالتعامل بواقعية يقربنا أكثر لفهم واستيعاب ما ينبغي علينا فعله. إن ما تواجهه مجتمعاتنا الخليجية من تحديات اقتصادية سواء كانت تحديات قديمة أو جديدة فضلا عن التحديات الاجتماعية والمخاطر السياسية والأمنية الإقليمية، تحتم علينا أن نفرق بين المجاملات التي تقتضيها آداب حسن الجوار ومراعاة العادات القبلية من ناحية، وضرورة التصدي- من ناحية أخرى- للحقائق والمصالح المحلية كما هي فعلا على أرض الواقع! فهذا أجدى وأفضل لدفعنا للتفكير في إيجاد حلول عملية لهذه التحديات الاقتصادية المتعاظمة.
ولذلك فإني أتمنى أن نضع الآن جانبا الحديث عن وحدة نقدية، على الأقل حتى حين. فلا يصح الحديث عن وحدة نقدية قبل التحقق من إمكانية نجاح الاتحاد الجمركي أولا. ثم إذا اتفقنا على هذا الاتحاد الجمركي وطبقناه والتزمنا به ووضعناه فعلا موضع التنفيذ من قبل الجميع، فحينها يمكن أن نبحث بواقعية إجراءات دخولنا جميعا في سوق مشتركة تجمع بين دولنا الخليجية تسمح بانتقال العمالة ورؤوس الأموال، ثم بعد نجاح كل ذلك يمكن أن نتكلم عن وحدة نقدية!
علينا أن نتحدث بصراحة، الوحدة الاقتصادية، أيا كانت درجاتها، تتطلب أولا قناعة واستعدادا مبدئيا للتنازل المشترك عن قدر من السيادة المحلية، في مقابل مصالح اقتصادية عليا مشتركة يقدر المشاركون في هذه الوحدة أنها مفيدة لهم وللسواد الأعظم من السكان، تحقق لهم مزايا حقيقية تجعل جميع الأطراف تعمل من أجل إتمامها وتجتهد في الدفاع عنها. أما غير ذلك فما هو إلا مضيعة للوقت، وتبديد للجهود، وهدر للموارد، وإحباط لآمال الناس، وتقويض لإيمانهم بمفهوم وفوائد الوحدة الاقتصادية التي قد يأتي يوم نشعر بحاجتنا فعلا إليها.
أرجو ألا يفهم من حديثي أنني معارض للوحدة الاقتصادية، فلا يقول بهذا عاقل في وقت زادت فيه التكتلات الإقليمية والعالمية, لكن طالما أننا لم نهيئ أنفسنا جميعا لمثل هذا المشوار، فإن الأجدى لنا اقتصاديا في المرحلة الراهنة، أن نسلك سبيل الناهضين والناجحين على مسرح الأحداث الاقتصادية العالمية المعاصرة، فنركز جهودنا على إصلاح وتمتين اقتصادنا داخليا أولا، ونضع لأنفسنا ثانيا برامج عمل اقتصادية فاعلة ذات أهداف كمية محددة، بحيث ننجزها خلال فترة زمنية معلومة ومقدرة. علينا تجاوز مرحلة الأهداف الاقتصادية الفضفاضة. لا ينبغي بعد اليوم أن ننادي فقط بتنويع مصادر الدخل، كذا بشكل مطلق، دون تحديد هدف كمي يجب علينا إنجازه خلال فترة زمنية محددة، من لا يفعل هذا، فليس لديه في الواقع خطة، وهو أبعد من أن يحقق شيئا أو أن يبلغ إربا!
وكل هذا يقتضي أن نراجع سياساتنا المالية والنقدية وسياسات توزيع الدخل ونخضعها بشكل مستمر للمراقبة اللصيقة والتقييم الدوري، وأن نقارن دوما الأهداف بالمنجزات وفق مواعيد زمنية دورية.
وفي كل الأحوال لا بد أن تكون غاية هذه الأهداف العمل على الارتقاء بمستوى معيشة السكان وضمان تحقيق حياة كريمة لهم من خلال الاستمرار في تلبية حاجاتهم الأساسية في التعليم والصحة والخدمات العامة والإسكان. ولن يتم ذلك دون برامج تطوير واضحة المعالم جلية الغايات. وكتبت وكتب غيري من المختصين والمهتمين بالشأن الاقتصادي العام، عن بعض التصورات لكيفية تطوير هذه القطاعات خاصة منها قطاعات الإسكان والاتصالات والنقل الجوي والتعليم والصحة.
وغني عن البيان، أنه لا يمكن ضمان نجاح برامج التطوير هذه، دون توفر إرادة صادقة وعزيمة ماضية لتطوير الجهاز الحكومي باعتباره جهازا تنظيما. فهو إما أن يكون عاملا مساعدا على الانطلاق أو عائقا يوردنا موارد الفشل والإخفاق. إن أي خطط اقتصادية لا تضمن تطوير الجهاز الحكومي إداريا من خلال العمل الجاد على رفع كفاءته وزيادة فاعلية، محكوم عليها بالفشل. والحق أن هذا يستدعي إحداث نقلة كبرى في مفهوم وثقافة العمل الحكومي، تنقله من كونه جهازا تسلطيا معطلا لمصالح الناس في مفهوم بعض الموظفين الحكوميين، إلى كونه جهازا تنظيميا عمله الأساسي خدمة مصالح الناس أفرادا ومؤسسات وتذليل الصعوبات الإدارية التي يمكن أن تواجههم عند ممارستهم أنشطتهم الاقتصادية، عن طريق اختيار أيسرها سبيلا وأقلها تكلفة، بدلا من إعاقة مصالحهم لأسباب شخصية بدعوى المحافظة على المصلحة العامة.
إن تطوير أجهزتنا الحكومية يقتضى أيضا أن تقوم دوريا بدورها المأمول في تأهيل وإبراز قيادات الصفين الثاني والثالث في الوقت الملائم. فليس من المصلحة أن يبقى بعض المسؤولين القياديين قابعين في الوظائف القيادية العامة لـ 20 و30 سنة متواصلة دون تقييم حقيقي لنتائج أعمالهم وإنجازاتهم وقدراتهم الجسمانية والذهنية على العمل والإبداع.
في الاجتماع قوة! لكن الوحدة الاقتصادية ليست غاية في ذاتها، لا نريدها قيدا دون أن تفيدنا، بل يجب أن تكون وسيلة لتقوية اقتصادنا وتحسين أحوالنا. حتى إذا ما لمس الناس فوائدها رحبوا بها مرددين: أهلا بوحدة أحباب .. وحدة ما يغلبها غلاب!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي