العملات الخليجية والدولار: حتى السلة لن تحل المشكلة
أثار قيام الكويت بربط عملتها بسلة من العملات بدلاً من الدولار أشجان عدد من الكتاب في دول الخليج فطالب أغلبهم إما بحذو حذو الكويت, أو برفع سعر صرف العملات الخليجية مقابل الدولار. المشكلة لا تقتصر على ربط أسعار الصرف بالدولار, وإنما تمتد إلى تسعير النفط به, واستمرار اعتماد الاقتصادات الخليجية على النفط, وارتفاع نسبة التجارة الخارجية الدولارية لدول الخليج. لذلك فإن عملية فك ارتباط العملات الخليجية بالدولار لن تحل المشكلة.
من الصعب بمكان أن تقوم أي دولة خليجية بما قامت به الكويت لأن الكويت عادت إلى نظام ما قبل عام 2003, الذي تبنته لمدة تقترب من ثلاثة عقود. هذا يعني أن تكاليف إعادة ربط الدينار الكويتي بسلة من العملات كانت بسيطة بكل المعايير لوجود النظام القانوني والإداري من جهة, وتوافر الخبراء من جهة أخرى. وبالرغم من أن أي دولة خليجية تستطيع الاستفادة من تجربة الكويت, إلا أن تكاليف التحويل ستكون عالية جداً, وقد لا تأتي ثمارها لأن نجاح التجربة في الكويت لا يعني بالضرورة نجاحها في دولة أخرى. أما الخيار الثاني, وهو رفع قيمة العملات الخليجية مقارنة بالدولار, فهو أكثر معقولية, ولكن هذا الرفع له مساوئه أيضاً, وقد يؤثر في موسم الحج في السعودية والسياحة في الإمارات, والانتعاش الاقتصادي في قطر. وهنا علينا أن نتذكر أن الحديث حول هذا الموضوع الآن سببه انخفاض الدولار, وستنقلب الأمور رأساً على عقب لو ارتفع الدولار وانخفضت قيمة اليورو والين.
كتبت عدة مقالات في الأشهر الأخيرة عن التضخم وأسعار العملات والعملة الخليجية الموحدة أشرت في بعضها إلى آراء مؤسس العملة الخليجية الموحدة روبرت مانديل الذي أكد ضرورة ربط العملة الخليجية الموحدة بعملة رئيسة, لما في ذلك من أثر إيجابي على استقرار سعر العملة واستقرار الاقتصاد. يمكن إجمال هذه المقالات بالفكرة التالية: رغم الآثار السلبية لربط العملات الخليجية بالدولار, إلا أن منافع الاستقرار الاقتصادي الناتجة عن هذا الربط لا يمكن تجاهلها. وإذا تم رفع سعر صرف الريال أو الدرهم بسبب انخفاض الدولار, ثم تم تغيير سعر صرفه مع ارتفاع الدولار فإن لذلك آثاراً سلبية لا يمكن تجاهلها. إن الحل الأمثل لدول الخليج وفقاً لمانديل, الذي حاز على جائزة نوبل في الاقتصاد في أواخر التسعينيات, هو العملة الخليجية الموحدة المربوطة بعملة رئيسة, التي أصر على تسميتها "الدينار". يذكر أن مانديل فضل ربطها بعملة ما بدلاً من ربطها بسلة من العملات.
عودة إلى عام 2002
قررت الحكومة الكويتية منذ أكثر من شهر اعتماد تحديد صرف الدينار الكويتي على أساس سلة من العملات العالمية الرئيسة التي تعكس العلاقات التجارية والمالية لدولة الكويت وعلى النحو الذي كان متبعاً قبل بداية عام 2003. قررت الكويت في بداية عام 2003 ربط الدينار الكويتي بالدولار كخطوة أساسية على طريق العملة الخليجية الموحدة, حيث إن ربط عملات الدول الخليجية بعملة واحدة يوفر قاعدة مشتركة بينها. في نهاية عام 2002 نشرت بعض الصحف الخليجية مقالاً لي بعنوان "قرار ربط الدينار الكويتي بالدولار له منافعه ومساوئه: الربط قد يؤدي إلى انخفاض القيمة الشرائية للنفط الكويتي في حالة انخفاض قيمة الدولار" وعنوان فرعي هو "الكويت قد تخسر أكثر من 010 مليون دولار في العام القادم إذا استمر الدولار بالانخفاض", وذلك على أثر النقاش الذي دار في الكويت في عام 2002 حول ربط الدينار الكويتي بالدولار. بين المقال تفاصيل الخسائر التي ستتعرض لها الكويت من جراء ربط عملتها بالدولار بدلاً من سلة من العملات, التي تتضمن التضخم وانخفاض القوة الشرائية. الطريف في الأمر أن الحكومة الكويتية أكدت في ذلك الوقت أن عملية إعادة الربط بالدولار لن تؤثر في قيمة الدينار, كما أنها لن تؤدي إلى زيادة التضخم!
أكد ذلك المقال على الرغم من التأكيد الحكومي أنه لن يكون هناك عواقب تضخمية لربط الدينار بالدولار, إلا أن استمرار الدولار في الانخفاض مقابل العملات العالمية الرئيسة, وخاصة الين الياباني, سيزيد من التضخم في الكويت, وبشكل مباشر وسريع. إن استمرار الدولار في الهبوط سيؤثر بشكل كبير في أسعار السلع المستوردة من اليابان وأوروبا, وسيلاحظ المستهلكون في الكويت ارتفاعاً في الأسعار, خاصة أسعار السيارات اليابانية والأوروبية. وأكد المقال \أن ربط الدينار بالدولار سيؤدي إلى انخفاض القيمة الشرائية لصادرات النفط الكويتي, الذي سيترجم على أرض الواقع إلى خسائر بملايين الدولارات في العام المقبل.
وأشار المقال إلى دراسة قمت بها منذ سنوات استنتجت أن القوة الشرائية للنفط الكويتي بين عامي 1971 و1994 كانت أعلى من القوة الشرائية لدول أوبك الأخرى لسببين, السبب الأول هو تنوع مصادر واردات الكويت, والثاني هو ارتباط الدينار الكويتي بسلة من العملات بدلاً من ارتباطه بالدولار. ويوضح الشكل البياني المرفق كيف استفادت الكويت من ربط عملتها بسلة من العملات بدلاً من الدولار في فترة التقلب الشديد للعملات العالمية في الثمانينيات حيث حقق برميل النفط الكويتي قوة شرائية أعلى من نظيره السعودي والإماراتي, مع العلم أن الشركاء التجاريين للكويت ونسبة الواردات من هؤلاء الشركاء مماثلة تقريباً للسعودية والإمارات. وقد لا يوضح الرسم البياني بسبب تقارب الخطوط قيمة الوفورات التي حققتها الكويت بسبب ربط عملتها بسلة من العملات, ولكن البيانات تشير إلى أن الزيادة في القوة الشرائية لبرميل النفط الكويتي مقارنة ببرميل النفط السعودي راوحت ما بين سنتين (2 سنت) أمريكيين و73 سنتاً للبرميل ما بين 1974 و1988. وقد ترجم هذا في أرض الواقع إلى جني الكويت مئات الملايين من الدولارات الإضافية بسبب ربط عملتها بسلة من العملات بدلاً من الدولار. ففي عام 1982 حققت الكويت وفورات إضافية بمقدار 533 مليون دولار, وهي الكمية التي كانت الكويت ستخسرها لو كانت عملتها مربوطة بالدولار في تلك الفترة أسوة بالدول الخليجية الأخرى. أما في عام 1989 فقد حققت الكويت وفورات قدرها 287 مليون دولار مقارنة بالسعودية والإمارات, وللسبب السابق نفسه.
وتوقع المقال أنه إذا استمر الدولار الأمريكي بالانخفاض فإنه يتوقع أن يخسر النفط الكويتي أكثر من 100 مليون دولار من قيمته الشرائية في عام 2003 مقارنة بالأعوام السابقة بسبب ربط الدينار بالدولار. أما إذا ارتفع الدولار فإن القوة الشرائية للنفط الكويتي ستزيد طالما أن الكويت ستقوم باستيراد السلع والخدمات من الدول الأوروبية واليابان, المشكلة أن ارتفاع أسعار الدولار سترفع من القيمة الحقيقية لأسعار النفط وستخفض الطلب عليه, مما يخفض أسعار النفط. هذه الخسائر، إضافة إلى التضخم، هي التي أجبرت البنك المركزي على العودة إلى النظام القديم.
الشكل البياني رقم (1)
القوة الشرائية لبرميل النفط الكويتي كانت تاريخيا أعلى من القوة الشرائية للنفط السعودي والإماراتي بسبب ربط الدينار بسلة من العملات, في الوقت الذي ربطت فيه السعودية والإمارات عملتيهما بالدولار.
المصدر: برنامج بتروتريد, من تصميم المؤلف.
توخي الحذر
علينا ألا نسرع بالاستنتاج بناء على البيانات السابقة والمطالبة بأن تقوم السعودية أو الإمارات أو قطر بربط عملتها بسلة من العملات كما فعلت الكويت. فالخسائر المذكورة أعلاه هي مجرد مقارنة بما حدث في الماضي في الكويت والنتائج المبنية على تغيير سياساتها. لهذا فإنه لا يمكن المقارنة بينها وبين الدول الخليجية الأخرى التي لم تغير سياساتها طيلة هذه الفترة. المبالغ المذكورة أعلاه بسيطة بمعايير الدولة ككل, حيث إن خسائر انخفاض الرصيد الأجنبي لدول الخليج مقدراً بعملاتها بعد ربط العملة بسلة من العملات أكبر بكثير من المبالغ المذكورة أعلاه. وكما أسلفت فإن كل ما فعلته الكويت هو العودة إلى ما كانت عليه على مدى ثلاثة عقود, وهو أمر قليل التكلفة نتيجة وجود الأنظمة القانونية والإدارية والمهارات اللازمة لذلك.
علينا أن ندرك أنه حتى في حالة التحويل إلى سلة من العملات فإن ذلك لن يحقق وفورات كبيرة نسبياً لأن الدولار سيحتل نصيب الأسد منها نتيجة لحجم التبادل التجاري الكبير بين دول الخليج والولايات المتحدة من جهة, ونتيجة لحجم التجارة الخارجية مع الدول الأخرى بالدولار الأمريكي. فإذا كان حجم التبادل التجاري بالدولار يمثل ثلثي التجارة الخارجية للسعودية, فإنه من المنطقي أن يستحوذ الدولار على ثلثي السلة. هذا يعني أن وفورات التحول إلى السلة ستقتصر على الثلث على الأكثر.
وعلينا أن ندرك أيضاً أن حجم اقتصاد المملكة يفوق حجم اقتصاد الكويت بعدة مرات, وأن الأمر نفسه ينطبق على التجارة الخارجية. هذا يعني أنه يمكن للكويت أن تتحكم في سلة العملات بسهولة, بينما ستجد المملكة صعوبة كبيرة في ذلك. بمعنى آخر, قد تناسب سلة العملات الدول الصغيرة, ولكنها بالتأكيد لا تناسب الدول الكبيرة.
الخلاصة
ربط الريال بسلة من العملات لن يحل المشكلات الناتجة عن ربط الريال بالدولار. علينا أن نتذكر أن هناك خيارات أخرى, منها الالتزام بالسياسة الحالية والنظر إلى أسعار الصرف على المدى الطويل. أما التضخم والقيمة الشرائية لصادرات النفط فإنه يمكن التعامل معها بسياسات مختلفة, منها العمل على تنويع مصادر الواردات وزيادة المرونة في تغيير المصدر. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن زيادة تنويع الواردات والمرونة في تغيير المصدر لا تتوافق مع ربط العملة المحلية بسلة من العملات. الأمر المقلق في دول الخليج هو ليس ارتفاع معدلات التضخم فقط, وإنما ارتفاع معدلات التضخم مع تدهور نوعية السلع والخدمات.
بالرغم من تأكيد الحكومة الكويتية على أن إعادة ربط الدينار بسلة من العملات لن تؤثر في العملة الخليجية الموحدة, وعلى الرغم من آراء بعض الكتاب التي تؤيد الموقف الحكومي, إلا أن الحقائق الاقتصادية والعوامل الفنية المتعلقة بالموضوع ستسهم في تأخير العملة الخليجية الموحدة. بعبارة أخرى, ما قامت به الكويت سيؤدي إلى تأخير العمل بالعملة الخليجية الموحدة إلا إذا ارتفع الدولار وقررت الكويت العودة إلى الربط بالدولار. لقد فضلت الكويت المنافع القصيرة المدى على حساب منافع أكبر على المدى الطويل من العملة الخليجية.