شركاتنا والمحاسب القانوني
في المهن الأخلاقية إن صح لي التعبير مثل الطب والهندسة والمحاماة وغيرها, لا ينبغي للعميل النظر إلى حجم الأتعاب على حساب جودة الأداء ومهنيته، فنحن في الواقع المعاش نبحث ونسأل عن الطبيب الماهر ولا نسأل عن أتعابه فالجودة والتأهيل يبرزان هنا أكثر أهمية من الأتعاب، والحال كذلك مع المهندس المعماري الجيد والمحامي الكفؤ وغيرهما، أما في مهنة المحاسبة فالغالب أن المنشآت تبحث عن أقل المراجعين أتعابا بل وتفاوضه في بعض الأحيان على خفضها أكثر وتطلب منه خدمات إضافية مجانية، لأنها تعتقد أن أتعابه عبء عليها وعمله لا أهمية له إلا في الحصول على شهادة الزكاة وتجديد السجلات التجارية وتسهيل أعمالها، لا تنظر في الغالب إلى أن عمله ذو أهمية لفئات تستفيد من التقارير المالية التي يراجعها ويقرر فيها وربما يعود سبب ذلك إلى أن الإدارة هي أقل المستفيدين من القوائم المالية المراجعة في حال كانت الملكية منفصلة عن الإدارة.
اعتقد أن فئة مهمة من المديرين التنفيذيين ومجالس الإدارة من غير الماليين لا يدركون أهمية مهنة المحاسبة والمراجعة وفي بعض الأحيان يجبرون الماليين لديهم على مخالفة معايير المحاسبة لمجرد عدم قناعتهم بها وهذا ما حدث فعلا في شركة مساهمة أوقفت تداولها هيئة السوق المالية أخيرا.
ومقابل هذه القضية المهمة التي لن أناقشها في هذه المقالة هناك جانب آخر يتعلق بنا نحن مجتمع المحاسبين ويمكنني أن اختصره في السؤال التالي: لماذا يقبل المحاسبون والمراجعون القانونيون بدءا بأتعاب لا تكفل الحد الأدنى من جودة الأداء التي تتطلبها مهنة المراجعة ؟ ولماذا تقل الأتعاب في بعض الأحيان عن تكلفة تذاكر السفر والإقامة للمراجعين الذين يفترض بهم أن يزوروا فروع المنشأة التي لديها مستودعات ذات أهمية نسبية للمراجع؟ في الحقيقة أن مثل هذه التساؤلات طرحت منذ سنوات وما زالت ولكن لم تجد إجابة شافية.
سأدخل بكم للغة الأرقام فربما تعطي تصورا عن ما يحصل اليوم، فحسب إحصاءات وزارة التجارة هناك 600 ألف مؤسسة فردية وسنفترض أنها جميعا لا تقوم بمراجعة تقاريرها المالية، ولكن هناك 50 ألف شركة متنوعة الأغراض والأشكال القانونية يلزمها النظام بمراجعة تقاريرها المالية عن طريق مراجع مستقل ومرخص من الهيئة السعودية للمحاسبين، وإذا علمنا أن هناك نحو 130 مكتب محاسبة ومراجعة مرخص، فإن متوسط حصة المكتب الواحد ستكون بحدود 385 عميلا.
هذه الأرقام اعتبرها خطيرة لأنني لا أعتقد أن مكتبا واحدا يستطيع أن يراجع هذا العدد الضخم ويلتزم في الوقت ذاته بالمعايير المرعية في جودة الأداء، فمتوسط عدد المهنيين في المكتب الواحد لا يساعد أبدا على إنجاز هذا العمل، من هنا أعتقد، والله أعلم، أننا نحن مجتمع المهنيين سبب رئيس في انخفاض حجم الأتعاب وليس قلة الوعي المهني لدى الإدارات العليا في الشركات أو لجان المراجعة، هناك تهاون خطير أراه وينبغي لكافة الجهود أن تتكاتف لتصحيحه، فأنا لا أحمل أي طرف بمفرده هذا الوضع ولكننا جميعا نشترك في المسؤولية.
إن التهاون في تطبيق معايير المراجعة ينعكس سلبا على سمعة المهنة والمهنيين وهنا أشيد بقرار مجلس إدارة هيئة المحاسبين القاضي بتحويل عدد من المراجعين للجنة تحقيق لتورطهم في قضايا من هذا النوع، ولكن ينبغي علينا كمهتمين أن تتكاتف جهودنا من أجل توفير التمويل اللازم الذي يكفل تنفيذ برنامج مراقبة جودة الأداء المهني في مكاتب المراجعة على أعلى المستويات وأيضا استمراره لسنوات حتى تتحقق أهدافه.