رفع قيمة الريال .. بين السياسات ووسائل الإعلام (1 من 2)

[email protected]

ذكر مقال الأسبوع الماضي منافع و مساوئ رفع قيمة الريال مقابل الدولار الأمريكي وتبين أن أمر رفع قيمة الريال أعقد بكثير مما يتصور أغلب الناس. ففي الوقت الذي ترتفع فيه القوة الشرائية للأفراد، سيخسر الاقتصاد مليارات الريالات من انخفاض عائدات النفط مقدرة بالريال، ومن انخفاض قيمة رصيد الحكومة من النقد الأجنبي مقدراً بالريال، الأمر الذي سيغير جذرياً السياسات المالية والنقدية للمملكة، وسيسهم في زعزعة الاستقرار الاقتصادي. ولكن بفرض أن الدراسات أثبتت أن صافي المنافع والمساوئ يتطلب رفع قيمة الريال، وبفرض أن مؤسسة النقد قررت رفع قيمة الريال، كيف يمكن لمؤسسة النقد أن تقوم بذلك، وما الطريقة المثلى؟ فإذا كان يجب رفع قيمة الريال بمقدار 20 في المائة مقابل الدولار، هل يتم رفعه مرة واحدة؟ على مرحلتين؟ ثلاث مراحل؟ أم يتم رفعه بتدرج بطيء؟ وهل سيسمح لقيمة الريال بالتذبذب ضمن نطاق معين، أم أنه سيكون محدداً بسعر ثابت في كل مرحلة؟ وهل سيتم الإعلان عن الرفع بشكل مفاجئ، أم يتم الإعلان عنه بشكل مبكر قبل موعد التطبيق؟
هناك دروس يمكن أن تستفيد منها مؤسسة النقد من عدة دول، خاصة الصين. فمشكلة اليوان الصيني خلال السنوات الماضية لا تختلف كثيراً عن مشكلة الريال. أجبرت العديد من الضغوط الاقتصادية والسياسية الصين على رفع قيمة اليوان، حيث قررت رفع اليوان تدريجياً، كما سمحت له بالتذبذب ضمن نطاق ضيق. ولكن هذا لا يعني بالضرورة نجاح التجربة الصينية في السعودية لأسباب عديدة منها أن حجم الاقتصاد السعودي صغير نسبياً مقارنة بالاقتصاد الصيني، وأن أغلب النمو الاقتصادي في السعودية يعود لارتفاع أسعار النفط خلال السنوات الأربع الماضية، بينما يعود نمو الاقتصاد الصيني لزيادة ضخمة في الإنتاج، وأن السعودية ما زالت تعتمد على النفط كمصدر أساس للدخل بينما يتميز الاقتصاد الصيني بتنوع أكبر، رغم اعتماده الكبير على الصادرات، وأن الرفع التدريجي مع وجود نطاق محدد للتذبذب عنى أن القيمة ستكون دائما عند الحد الأعلى للنطاق، كما أسهم في زيادة شكلية في الاستثمار الأجنبي، والذي أسهم بدوره في زيادة التضخم بدون أن يزيد من إنتاجية الصين.
مخاطر الإعلان عن النية لرفع الريال أو الإشارة إلى ذلك تشير تجارب الدول التي غيرت سعر عملتها إلى أنه يجب أن تتم دراسات رفع قيمة الريال بمنتهى السرية، وأن يتم التعامل معها كأنها سر عسكري خطير، وأن يتم الإعلان عن رفع قيمة الريال بشكل مفاجئ. إعلان الكويت المفاجئ عن فك ارتباط عملتها بالدولار وربطها بسلة من العملات في الشهر الماضي يوضح أن الكويت استوعبت هذا الدرس جيداً، وما انتقاد بعض الكتاب للكويت بأنها لم تعلن عن نواياها مسبقاً، وأنها لم تشارك هذه المعلومات مع دول مجلس التعاون، إلا دليل على أن هؤلاء الكتاب يجهلون أساسيات السياسات الاقتصادية.
إذا صرح أي مسؤول بأن المملكة تنوي رفع سعر صرف الريال، فماذا سيحدث؟ الاستثمار الأجنبي سيرتفع بين عشية وضحاها بشكل لم تشهده المملكة من قبل. المستثمرون السعوديون سيغرقون السوق بتحويلاتهم الضخمة من الخارج. الطلب على الريال سيزداد في شتى أنحاء العالم. لماذا؟ إذا افترضنا أن التصريح أشار إلى رفع قيمة الريال، وافترضنا أيضاً أن التوقعات، والمبنية على دراسات متعددة، تشير إلى أن الريال أقل من قيمته الحقيقية بالنسبة للدولار بمقدار 20 في المائة، فإن أي مستثمر يمكنه تحويل عشرة ملايين دولار، مثلاً، إلى ريالات، أو أن يقوم بشراء أراض أو أصول مالية داخل السعودية، ثم يتخلص منها بعد رفع سعر الريال. في هذه الحالة سيحقق هذا المستثمر أرباحاً تتجاوز مليون دولار خلال فترة قصيرة من الزمن، وبعملية تجارية واحدة. فهو سيحول دولاراته إلى ريالات ليحصل على 37.5 مليون ريال (10 ملايين دولار ـ 3.75 ريال) حسب سعر الصرف الحالي. بعد رفع الريال بمقدار 20 في المائة، يمكنه إعادة الريالات إلى دولارات، ولكنها الآن تساوي 11.111 مليون دولار (37.5 مليون ريال\ 3.375 (سعر الصرف الجديد) = 11.111 مليون دولار). ولكن الأمر لا يتعلق بعشرة ملايين دولار فقط، وإنما قد يصل إلى مليارات الدولارات. هذه العمليات تعرف بالمضاربات على الريال.
المشكلة أن هذه الاستثمارات مؤقتة ولا تسهم في زيادة الإنتاج أو الإنتاجية لأن هدفها هو الاستفادة من فرق العملة متى تم رفع سعر صرف الريال، ثم تعود من حيث أتت. أغلب هذه الاستثمارات سيكون إما على شكل ودائع في البنوك ومشتقاتها المالية، أو على شكل استثمارات عقارية. الودائع البنكية ومشتقاتها ستسهم في زيادة عرض النقود، وسيكون لها تأثيرات عديدة، منها الضغط على أسعار الفائدة، وزيادة التنافس غير الصحي بين البنوك، والذي سيؤدي بدوره إلى زيادة القروض ذات المخاطرة العالية، وزيادة حالات الإفلاس. الاستثمارات العقارية سترفع أسعار الأراضي بشكل جنوني ولفترة مؤقتة، الأمر الذي سيؤثر سلباً في المواطنين و المقيمين من جهة، والاقتصاد ككل من جهة أخرى.
المشكلة الأخرى أن السعودية غير الصين. فالاقتصاد السعودي صغير مقارنة باقتصاد الصين، وكمية الريالات المعروضة محدودة. هذا يعني أن الاقتصاد السعودي والريال السعودي ربما لا يتحملان الضغط الهائل الذي يمكن أن تمارسه المضاربات على الريال، والتي سترفع سعر صرفه في الأسواق العالمية لشدة الطلب عليه، وندرته في السوق. هذه المضاربات قد ترفع سعر الريال إلى مستويات أعلى مما يستحق، وستجبر مؤسسة النقد على بيع المزيد من الريالات لتخفيف الضغط عنه، الأمر الذي سيزيد من عرض النقود، وسيرفع معدلات التضخم فوق المعدلات الحالية. إضافة إلى ذلك فإن صغر حجم الاقتصاد السعودي مقارنة بالاقتصاد الصيني يعني احتمال تعرضه لهزة من جراء دخول استثمارات ضخمة ثم خروجها بسرعة، أو ارتفاع حدة المضاربات على الريال، أو ارتفاع معدلات التضخم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي