أقل الأسعار.. البعض لا يؤيدها

[email protected]

يرى البعض أن السبب الرئيس لتدني مستوى التنفيذ في بعض المشروعات العامة من مبان ومرافق وتعثر بعضها هو تطبيق معيار الأخذ بأقل الأسعار في المنافسات العامة التي تطرحها الجهات الحكومية. ومن ثم يدعو أولئك البعض إلى التخلي عن ذلك المعيار وعدم الالتفات إليه عند فحص العروض، وأن تكون المرجعية التي يُحتكم إليها في اختيار العرض الملائم تقديرات التكلفة التي أعدتها الجهات الحكومية مسبقاً للمشروع. ويمضي المعارضون لمبدأ أقل الأسعار في دعواهم بالاستشهاد بالتجارب الناجحة في القطاع الخاص وعلى رأسه شركة أرامكو السعودية التي تُخضع عطاءات مشروعاتها وأعمالها لدراسات مفصلة ودقيقة لا تتقيد بالضرورة بأقل الأسعار المقدمة إن جاءت بعيدة عن تقديراتها المسبقة للتكلفة.
ذلك الرأي المعارض لتطبيق قاعدة أقل الأسعار في المنافسات الحكومية، وإن بدا في ظاهره حكيماً، ينطلق من افتراض خاطئ لا يسنده ما يُشاهد على أرض الواقع. إذ إن سوء التنفيذ في بعض المشروعات العامة لا يقتصر على تلك التي أُبرمت عقودها بأقل الأسعار فحسب، بل يشمل أيضاً عقوداً أُبرمت بأسعار مرتفعة تزيد على الأسعار السائدة في السوق، والأمثلة على ذلك كثيرة. أي أن العلة ليست في الأسعار المتدنية بل تكمن في أسباب أخرى سنتحدث عنها في سياق هذا المقال. أما الخلل الآخر في الرأي المعارض لمبدأ أقل الأسعار فهو استشهاده بمعطيات غير متكافئة بين القطاع الخاص والقطاع العام.
إن مطالبة الجهات الحكومية بتبني آليات كتلك التي يطبقها القطاع الخاص، كـ "أرامكو" مثلاً، في منافسات أعمالها ومشترياتها أمر يسهل تنظيره، غير أنه يصطدم بعقبات حقيقية تجعل تطبيقه على أرض الواقع تجربة محكوم عليها سلفاً بالفشل. إذ سبق أن خاضت بعض تلك الجهات تجربة " تقدير تكلفة المشروع " كمرجعية في ترسية المنافسات، إلا أن تلك الآلية أسيء استخدامها بشكل مجحف ما دعا المتعاملين أنفسهم مع تلك الجهات إلى تقديم شكاوى للجهات الرقابية مطالبين باعتماد مبدأ أقل الأسعار كي تتحقق العدالة بين المتنافسين بعيداً عن التقديرات المفبركة أو التي يعاد فبركتها كي توائم "العطاء المختار" بعد كشف الأسعار.
عندما نستشهد بتجربة القطاع الخاص في تحديد المعايير التي يطبقها في منافسات أعماله ومشترياته يجب ألا ننسى المعطيات الأساسية التي تتوافر لدى ذلك القطاع بينما قد لا تكون متاحة للسواد الأعظم من الجهات الحكومية. من بين تلك المعطيات توافر قاعدة جيدة من المعلومات التفصيلية عن تكلفة عناصر المشروعات في جميع مراحلها ابتداء من الدراسة والتصميم، ثم الإنشاء، وانتهاء بالصيانة والتشغيل. و"أرامكو السعودية" بالذات تحتفظ بقاعدة معلومات بنتها على مدى عقود طويلة من العمل المنظم. ولا يقتصر الأمر في معطيات القطاع الخاص على وجود قاعدة بيانات للتكاليف فحسب، بل إن المواصفات والشروط التي تُطرح تعد بشكل دقيق يعكس الاحتياجات الحقيقية دونما زيادة أو نقص، ما يقلص إلى حد كبير فرص العبث والتواطؤ مع المقاولين في وقت لاحق. ثم هناك عامل آخر ينبغي التوكيد عليه لضمان جودة التنفيذ ألا وهو التأهيل المسبق للمتنافسين بحيث لا تُسّلم وثائق المنافسة بتاتاً إلا لمن لديه خبرة في أعمال مماثلة وعدم الاستجابة لأية ضغوط أو مجاملات.
إن المعطيات التي يتميز بها القطاع الخاص في إدارة خطوات وإجراءات منافساته ومشترياته لا تقف عند ما سبق سرده آنفاً، إذ إنها منظومة متكاملة تبدأ باختيار وتأهيل العنصر البشري، وتوزيع الأدوار والمسؤوليات بشكل فاعل، ثم الإشراف الجيد على التنفيذ. وأقول لأولئك الذين يستشهدون بتجربة "أرامكو السعودية" ومطالبتهم الجهات الحكومية بمحاكاتها، ليتهم يطلعون على مستويات التأهيل المهني والعلمي التي اكتسبها في الداخل والخارج المسؤولون عن إدارة مشروعاتها ومشترياتها.
الشاهد هنا أن العلة في تدني مستوى التنفيذ في بعض المشروعات العامة لا يمكن إسنادها لمبدأ الأخذ بأقل العطاءات سعراً، بل إن الخلل في كثير من الأحيان مرده إلى ترسية المنافسة على مقاول ليست لديه القدرات المالية والفنية الكافية لإنجاز العمل، وما كان أصلاً ينبغي أن يُسمح له بالدخول في المنافسة. غير أن بعض أولئك المقاولين يغتنم غموض الشروط المعلنة أو ندرة شركات المقاولات المؤهلة، كما هو الحال اليوم، ليخترق كل الحواجز ويحظى بعقد هنا وهناك مُخلّفاً وراءه العديد من المشروعات المتعثرة أو المشوّهة.
وقد تنبه النظام الجديد للمنافسات والمشتريات الحكومية لأهمية قصر التعامل على المقاولين المؤهلين فقط، وأن ذلك لا يتعارض مع مبدأ المنافسة العامة. فلم يكتف النظام الصادر بالمرسوم الملكي رقم م/58، وتاريخ 4/9/1427هـ على النص في مادته (الثانية) بأن يكون تعامل الجهات الحكومية مع المرخص لهم بمزاولة العمل الذي تقع في نطاقه الأعمال، بل أضاف في مادته (الثالثة) شرط التأهيل أيضاً لأولئك الراغبين في التعامل مع الحكومة.
إن التمسك بمبدأ أقل الأسعار فيه حماية لجميع الأطراف ودرء لمفاسد كثيرة. غير أنه لا يمكن إعمال ذلك المبدأ بنجاح إن لم تلتزم الجهات الحكومية بجميع الضوابط التي نص عليها النظام الجديد للمنافسات والمشتريات الحكومية وفي مقدمتها التأهيل الدقيق والصارم للمتقدمين لشراء وثائق المنافسة وعدم السماح لمن لا تتوافر فيه الشروط بالمشاركة تحت أي ظرف أو اعتبار.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي