شبابنا ضحية من أخلصنا لهم
(قصة واقعية)
عندما كنت مبتعثاً للدراسات العليا في الولايات المتحدة الأمريكية تعرفت إلى شاب عربي ذي أخلاق ومهارات عالية (في حينه)، كان قريباً إلى قلبي لما لمسته منه من صدق في المعاملة وجد واجتهاد وغيرة على دينه وأمته.
كان يتمنى العمل في السعودية وكنت أشاركه الشعور نفسه، لأنه سوف يكون لبنة صالحة ومفيدة في بناء الوطن. كنت أعول عليه كثيراً, فقد وعدني بعمل المستحيل, لأنه سوف يستثمر ما لديه من إبداعات علمية ومهارات عملية في تنمية المهارات لدى الشباب السعودي, سوف يحرص كل الحرص على تعليمهم وتدريبهم. كان ذا شخصية مؤثرة ومتميزة، يستطيع إقناعك بما يريد عمله, ويثبت ذلك من خلال أفعاله.
الارتباط فيما بيننا كان قويا ومتواصلا. حصلت على شهادة الدكتوراه في الوقت الذي حصل هو على شهادة الماجستير في التخصص نفسه, وعدت إلى أرض الوطن، ولكنني لم أستطع أن أنساه، بل لم أفكر في ذلك. وكان التواصل فيما بيننا شبه أسبوعي عن طريق المكالمات (رغم التكلفة الباهظة) والبريد الإلكتروني. كان ذلك في عام 1413 هـ. (قبل ما يقارب 16 سنة). كان يطلب مني دائماً مساعدته على العمل في المملكة. بذلت مجهودا كبيرا جداً لجلبه لأرض الوطن . كنت أتمنى أن يعمل في الجامعات كمحاضر لأنه يتمتع بأسلوب جميل جداً في الشرح، إضافة, إلى كونه ذا مستوى علمي متميز, ولكنه يرفض ذلك بحجج مقنعة, وأنه لا يريد أن يعمل في الجامعة إلا كأستاذ, وهذا سوف يتم لاحقاً. ولكن ظروفه المالية تجبره على العمل لكسب لقمة عيش حلال, لكي يصرف على أسرته.
قابلت أحد المسئولين في حينه، الذي أعرف حرصه الشديد على مصلحة وفائدة وطنه, وأطلعته على السيرة الذاتية لهذا المهندس الفذ, وأعطيته أحسن تزكية وأثبت ذلك من خلال الاتصال ببعض أساتذته من البروفسورات المشهورين على مستوى العالم. تبنى المسؤول فكرتي عن قناعة خالصة لا شك فيها, خصوصاً بعد قراءة السيرة الذاتية, ورأى هو الآخر أنها فرصة ثمينة يجب عدم التفريط فيها. اجتهد لإحضار هذا الشاب العصامي والطموح على حسابه الخاص ودفع له مرتباً شهرياً مناسباً.
الغاية تبرر الوسيلة:
اتضح لي فيما بعد (وللأسف الشديد) أن غاية هذا الشاب المسلم الحصول على فيزة تمكنه من دخول البلد وتحقيق أهدافه الخاصة. بعد وصوله إلى أرض المملكة الحبيبة, التي احتضنته بين ذراعيها وفرشت له الأرض ورداً من دنانير ملونه بأزهى الألوان وأطفأت لهيب عطشه إلى جمع المال، لم يعد بحاجة إلى سماع صوتي أو الاتصال بي, لأني أصبحت رقماً بالياً في مذكرته, وبطاقة ائتمان منتهية الصلاحية. أصبح يرد على مكالمة واحدة فقط في الشهر. بعد ذلك, أصبحت لا أراه إلا مرة واحدة (وبالصدفة) في السنة ثم قطع الاتصال تماماً.
طبعاً, كان حريصا من أول يوم وطئت قدماه أرض الوطن على نقل كفالته إلى أناس تم الترتيب معهم مسبقاً ودون علمي. استطاع بطريقته الخاصة نقل كفالته إلى شخص آخر يوافقه في التفكير وأسلوب العيش. بعد ذلك, عمل على إقناع بعض أصحاب رؤوس الأموال ومن لديهم نفوذ أو علاقات خاصة, بإنشاء شركة يعمل فيها كمسوق Sales Man, لأنه مسوق جيد للكلام, بل اكتشفت فيما بعد أن هناك أشخاصا أعرفهم سهلوا له ما يصبو إليه لتحقيق رغبتهم في جمع المال ولو كان ذلك على حساب مكتسبات الوطن.
بعد 10 سنوات, أصبح لديه شركة يُشار إليها بالبنان, اكتشف البعض عدم إخلاصه للوطن الذي احتواه وعاش على ترابه وسد رمقه وجوعه وجعله من كبار التجار, فانسحب من الشركة على مضض وذكر لي بعض القصص التي لا أستطيع سردها. ولكني وجدت من أشكو إليه همي، حيث إنني أصبحت في خجل شديد عند مقابلة المسؤول الذي بذل مجهودا كبيرا لإحضاره, فهو يقول ليِ دائماً, كيف حال بضاعتك يا أبا عبد الرحمن؟ وكأنه يريد أن يقول: بضاعتكم ردت إليكم.
اتق شر من أحسنت إليه:
قد يتحقق هذا المثل في حياة الكثير منا, ولكن يجب أن لا يكون لهذا المثل أي أثر في حياة المؤمن المحتسب وأن لا يغير طريقة تعامله مع الناس. إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى. "ومن يعمل مثقال ذرةٍ خيراً يره, ومن يعمل مثقال ذرةً شراً يره" الآية. الأساس إحسان النية, والاحتساب وبما يرضي الله, ولكن المؤمن يجب أن يكون كيسا فطنا.
في بداية تأسيس شركة صديقنا، التي يملك أكثر من نصفها حالياً, بدأ كما ذكرنا سلفاً كمسوق برأس مال سعودي 100 في المائة. أرسلت إليه (حسب طلبه) عددا من المهندسين خريجي الكليات التقنيات والجامعات السعودية, ولكنه كان يدفع لهم مرتبات متدنية جداً, تراوح بين 2000 و4000 ريال سعودي. ويعدهم بتحسين أحوالهم بعد 3 أشهر, وعمل دورات, وإعطائهم ميزات أخرى. ولكن تمر الأيام والسنون ودون تعديل أو تبديل, إلى أن يضطرهم للرحيل. وقد خسر الكثير منهم فرصا مناسبة, ولكن إغراءات مهندسنا ووعوده السرابية جعلت الكثير منهم يحلم بتحقيق رغباته.
قررت الذهاب إلى شركته على مضض, لكي أشرح له أن ما يفعله بشباب هذا الوطن غير أخلاقي. فهم لا يستحقون هذه المعاملة السيئة, خصوصاً أنهم أبناء الوطن ودرعه وحماته. كان يتعامل معهم بأسلوب نفسي سيئ, يفقد الشباب الثقة بأنفسهم, ويحطم طموحاتهم, ويقتل فيهم الإبداع.
في المقال المقبل (إن شاء الله) سوف نحاول استكمال هذه القصة الظريفة, وإعطاء أمثلة على عينات أخرى لها اليد البيضاء في تدريب شباب الوطن والمساهمة في البناء على نقيض ما يفعله صاحبنا، الذي فقد مصداقيته عند الكثير من عملائه.