انعكاسات الانضمام لمنظمة التجارة العالمية على التعليم والتدريب .. المهمة المزدوجة
تعتبر قضيتا "المنافسة والإغراق" من أبرز التحديات المصاحبة لانضمام المملكة إلى منظمة التجارة العالمية التي ينبغي الاستعداد لها على مستوى قطاعات التنمية والاقتصاد الوطني، على وجه العموم وعلى مستوى القطاع التربوي على وجه الخصوص.
وفي ضوء إدراج التعليم والتدريب ضمن الجزء المتعلق باتفاقيات "الخدمات" في منظمة التجارة العالمية نظراً لضخامة حجم الاستثمارات في هذا القطاع الحيوي المهم، واستناداً إلى موافقة المملكة في إطار توقيعها لاتفاقية الانضمام, على السماح لرأس المال الأجنبي بالاستثمار في جميع الخدمات التعليمية والتدريبية، شريطة أن لا يتعارض هذا الاستثمار مع أهداف وغايات المملكة وسياستها التعليمية، وأن يكون 75 في المائة من العاملين في هذه المؤسسات التربوية الأجنبية من السعوديين، تبرز ضخامة المسؤولية الملقاة على عاتق الجهات المشرفة على التعليم والتدريب، وتبرز أيضا الحاجة الماسة لإعادة النظر في استراتيجيات وسياسات التطوير التربوي في المجالين التعليمي والتدريبي التي ينبغي أن تأخذ بعين الاعتبار قضايا "البعد الخارجي" بأسلوب إجرائي واقعي ملموس، إذ لم يعد الانكفاء على قضايا "البعد الداخلي" بالرغم من أهميتها، أمراً كافياً أو مجدياً.
وتتمحور قضية "المنافسة" في توفير السلع أو البضائع أو الخدمات بجودة عالية وتكلفة منخفضة، وفي ظل اختلال هيكل سوق العمل السعودي وعدم قدرته على استيعاب الأعداد المتزايدة من العمالة الوطنية تصبح عملية المنافسة السعودية غير عادلة. إن سوق العمل السعودي لا يزال يعاني محدودية نسبية في جانب الطلب "نتيجة لصغر حجم القاعدة الاقتصادية والبنية الصناعية، إذا ما قورنت ببعض اقتصادات الدول المتقدمة وفي المقابل انفتاح "جانب العرض" على سوق العمالة الأجنبية الراغبة في العمل بأجور متدنية مع امتلاكها مهارات العمل تارة أو تكيفها السريع وإصرارها على امتلاك تلك المهارات تارة أخرى، وعلى العكس من ذلك، فإن العمالة الوطنية ينقصها إلى حد كبير في الوقت الحالي ثقافة العمل في القطاع الخاص ومهاراته الأساسية، مع تطلعاتها إلى حد أعلى من الأجور يتواءم مع مستلزمات ومتطلبات نمط الحياة المجتمعي السعودي.
أما قضية "الإغراق" فإنه يمكن وصفها بأنها أساليب المنافسة غير المشروعة التي قد تلجأ إليها بعض الدول من خلال الاختراق المنظم للثغرات القانونية أو الاستغلال السيئ لبعض نقاط الضعف التي توفرها ضبابية بعض بنود اتفاقات منظمة التجارة العالمية المنوطة بتحرير الأسواق وإزالة الحواجز الجمركية عن السلع والبضائع والخدمات وتأمين انتقالها بين البلدان دون شروط أو قيود أو أي إجراءات ذات طابع تعسفي أو تمييز. ولعل أبرز مظاهر سياسة الإغراق الملتوية في المجال التجاري يتمثل في تدفق السلع والبضائع الرخيصة ذات الجودة الرديئة، ومن ثم تسويقها تحت ستار السلع أو البضائع "المجددة" أو "التجارية" أو تحت شعار السلع والبضائع "المخفضة" الرامية إلى تحطيم الأسعار وتوفير المال، الأمر الذي يتعاظم معه الدور الرقابي والتوعوي للجهات المعنية وفي مقدمتها وزارة التجارة والهيئة السعودية للمواصفات والمقاييس. أما في مجال الخدمات، وعلى وجه الخصوص في القطاع التربوي، فإنه من المتوقع أن تتزايد فيه ظاهرة الإغراق من خلال الترويج للشهادات والبرامج الرخيصة وذات الجودة الرديئة داخل حدود الوطن أو خارجه.
إن قضيتي المنافسة والإغراق تفرضان على النظام التعليمي والتدريبي مهمة مزدوجة، الشق الأول منها ذو بعد خارجي وطني، ويتمثل في إعداد العمالة الوطنية القادرة على المنافسة في سوق العمل والصمود أمام ضغوط بيئة العمل وظروفه كما أن هذا البعد الخارجي للمهمة يستجيب للمسؤولية المجتمعية الملقاة على عاتق المؤسسات التعليمية والتدريبية المتضمنة إعداد الفرد المنتج الصالح وإرساء قواعد المجتمع المعرفي.
أما الشق الثاني من المهمة فهو ذو بعد داخلي ذاتي يتمثل في استعداد المؤسسات التعليمية والتدريسية نفسها للمنافسة القوية من قبل نظيراتها من المؤسسات في الدول المتقدمة أو الأكثر نمواً، التي فرضت عليها بموجب فتح سوق الخدمات التربوية أمام المستثمر الأجنبي بما يمتلكه من خبرات وإمكانات، وبما يتمتع به من إغراءات وحوافز ساعدت على ترسيخها ظروف الهيمنة الثقافية والتقدم العلمي والتقني. وحقيقة الأمر أن أداء هذه المهمة ببعديها الداخلي والخارجي على أكمل وجه يتطلب من مؤسسات الوطن التعليمية والتدريبية منها على حد السواء أن تضع في حسبانها أن إعداد العدة لمواجهة الاستثمار الأجنبي في الخدمات التربوية الوافدة، على أساس أنها "مرحلة مفصلية" لإثبات الوجود والقدرة على البقاء والاستمرار، وفي الوقت نفسه، ينبغي الإعداد لمرحلة قادمة تتمكن فيها مؤسساتنا التعليمية والتدريبية من أن تضع أقدامها خارج حدود الوطن بكل جدارة واقتدار انطلاقاً من مبدأ الندية والمعاملة بالمثل واقتناصاً للفرص التي توفرها اتفاقات منظمة التجارة العالمية في مجال الخدمات التربوية.
من هذا المنطلق فإن المنافسة بوجهها الشرعي وغير الشرعي في مجال الخدمات التربوية تفرض على القيادات التربوية وصناع القرار التربوي مواكبة الانضمام لمنظمة التجارة العالمية من خلال التوازن والتكامل في تفعيل بعدي المهمة المزدوجة في سائر الخدمات التعليمية والتدريبية إذ إن الفشل في أحدهما يؤثر سلباً في الآخر، بل إن نجاح القطاع التربوي في أداء مهمته يسهم إلى حد كبير في نجاح سائر القطاعات التنموية والاقتصادية، الأمر الذي يعظم الفوائد ويقلل من سلبيات انضمام المملكة إلى المنظمة.
وأخيراً، وليس آخراً فإن القطاع التربوي لكي يتمكن من تقديم خدمة تعليمية أو تدريبية متميزة قادرة على التصدي لشراسة المنافسة وزيف الإغراق لا بد له من اتخاذ خطوات إجرائية جادة حيال إرساء قواعد الاعتماد الأكاديمي والمدرسي بما يكفل الجودة والتميز في أداء مؤسساته التعليمية والتدريبية ويحد من تدفق المؤسسات التربوية الأجنبية الرديئة من جهة، ولا بد له أيضا من تبني مفهوم التكتل والاندماج في القطاع التربوي لإيجاد شراكة حقيقية على المستويات المحلية والإقليمية والدولية مع المؤسسات المتناظرة تقوم على أساس المصالح المشتركة بما يسهم في تعزيز المكانة العلمية والسمعة الأكاديمية لمؤسساتنا التعليمية والتدريبية ويعزز وجودها التربوي والتجاري داخل الوطن وخارج حدوده من جهة أخرى.