حماية المدخرات غاية أم وسيلة؟

[email protected]

خلص المشاركون في مؤتمر اليوروموني السعودي الأول للتمويل الإسكاني، إلى حقيقة مفادها أن البلاد تعاني سيادة التطوير الإفرادي ذي الآثار السلبية على حساب التطوير المؤسساتي ذي الآثار الإيجابية، مما ساهم بشكل كبير في تزايد الفجوة بين المطلوب والمعروض من الوحدات السكنية وما ترتب عليها من إفرازات ظهرت بوادرها بارتفاع كبير في الإيجارات. كما خلص المشاركون في ذلك المؤتمر إلى أن شح آليات تمويل المشاريع الإسكانية وتمويل المواطنين لشراء المساكن المنتجة يشكلان السبب الرئيسي في ندرة شركات التطوير الإسكاني القادرة على الاستجابة المخططة للطلب وإيجاد التوازن المطلوب بين العرض والطلب, إضافة إلى قدرتها على تطوير وحدات سكنية بكميات كبيرة وأنواع متعددة عالية الجودة متعاظمة القيمة في أحياء مطورة بشكل كامل وشامل دفعة واحدة لا كما الحال حاليا حيث يستغرق الحي أكثر من 20 سنة حتى يتكامل بنسبة لا تزيد على 70 في المائة.
إذن التمويل هو المشكلة، والسؤال المنطقي من أين يأتي التمويل؟ ولماذا لا يستطيع مجتمع الأعمال - أيا كان القطاع الذي ينشط فيه - الوصول إلى التمويل رغم ضخامة حجم السيولة في بلادنا, التي وصلت إلى أكثر من 620 مليار ريال, رغم أن الكثير من أصحاب المدخرات يبحثون عن قنوات استثمارية لتنمية مدخراتهم بشكل آمن ومعقول؟ لماذا نعاني جميعا من شح آليات التمويل وبنوكنا تغص بالمدخرات؟
التمويل يأتي من عدة مصادر, فإذا استثنينا المصادر الخاصة للشركة أو ملاكها وشركائهم وعلاقاتهم، فإن المصدرين المهمين هما البنوك ومدخرات المواطنين والمقيمين Puplic. والتمويل من البنوك لا يمكن الوصول إليه إلا من خلال الالتزام بأنظمة ولوائح مؤسسة النقد المسؤولة عن مراقبة المصارف التجارية وتشجيع نمو النظام المالي وضمان سلامته، ومدخرات العامة لا يمكن الوصول إليها إلا من خلال طرح أوراق مالية (أسهم/ سندات / وحدات صناديق) بموافقة هيئة السوق المالية بعد تطبيق أنظمتها ولوائحها، وكلتاهما (مؤسسة النقد وهيئة السوق المالية) تهدفان إلى إرساء أطر قانونية ومؤسساتية تستجيب لاحتياجات السوق وتشجع أصحاب المدخرات على تنميتها وتوفر حماية فاعلة للجميع دون تغليب مصلحة طرف على آخر، وهي أهداف مطلوبة وصحية ويتفق عليها الجميع.
ولكن نتيجة لما حدث من تجاوزات قبل تأسيس هيئة السوق المالية حيث سهولة الوصول إلى مدخرات العامة من خلال طرح صيغ تمويلية (أوراق مالية) غير متعارف عليها عالميا (المساهمات العقارية) بشروط متساهلة ودون مراقبة للجهة المصدرة لتلك الأوراق النشاز مما مكّنها من التصرف في الأموال التي حصلت عليها كيفما شاءت وتوجيهها لأغراض أخرى غير معلنة, إضافة إلى إمكانية الاستيلاء عليها نصبا واحتيالا مما أضاع حقوق العامة وأضر بالنظام المالي في البلاد. أقول نتيجة لذلك تشددت الهيئة, كما هو حال مؤسسة النقد من قبل, في تمكين الجادين من مجتمع الأعمال من الوصول إلى السيولة المتاحة لتنمية أعمالهم، نعم لم يتم التعامل مع الحالات الفردية ومعاقبتها، بل تم التعامل مع الكل على قدم المساواة في الشك وسوء الظن، وطبقت عليهم معايير عالية أشد مما هو متعارف عليه عالميا حتى أصبحت قضية حصولهم على التمويل قضية شبه مستحيلة.
إذن الأطر القانونية والمؤسساتية وفرت الحماية لكنها لم تستجب لاحتياجات السوق ولم تشجع أصحاب المدخرات على تنميتها. ومعروف أن حبل الحماية الذي قد يصل للمنع أو لوائح متشددة في بيئة ناشئة تعتبر عرفا نوعا من أنواع المنع، أقول حبل الحماية قد يخنق الاقتصاد بعد أن يخنق رجال الأعمال بالضغط على شريان التمويل الناقل للسيولة المنشطة للاستثمارات، التي تصيب مجتمع الأعمال بالشلل النصفي أو الكلي حال انقطاعها فترة من الزمن عنه مما يصيب الاقتصاد في النهاية في مقتل.
مجتمع الأعمال السعودي يقف حيران وأكثر من متضايق وهو يرى السيولة تتجمع في خزانات ضخمة لكنها لا تجد سوى قنوات ضيقة جدا تنقلها إلى مجتمع الأعمال القادر على تحويلها إلى قيمة اقتصادية توفر الخدمة والمنتج والفرص الوظيفية وتحرك النقد في أيدي الناس والمؤسسات في دورات مالية متتالية تنعش الوطن والمواطن وتنهض بهما في عالم تشتد فيه المنافسة يوما بعد يوم بشكل شرس.
ختاما لا يسعني إلا أن أحيي الجهود التي يقوم بها القائمون على مؤسسة النقد العربي السعودي، والقائمون على هيئة السوق المالية، ورجال الأعمال المخلصون الجادون. وأود أن أقول لهم جميعا إن رقي مستوى العلاقة بينكما (المؤسسات المالية ومجتمع الأعمال) عنصر حاسم في نمو اقتصادنا وسعادة حالنا، وكلنا نرجو أن تكون علاقة تآلف لا علاقة جفاء، وكأن كل طرف منكم يعمل بمعزل عن الآخر، أو كل طرف وضع للحد من قدرات الطرف الآخر. ما نرجوه حقيقة أن يعزز كل طرف دور الطرف الآخر من أجل تحقيق مصلحته ومصلحة المواطن والوطن. سائلين الله ـ العلي القدير ـ أن تكون الحماية في نفوسكم وسيلة لا غاية، وأن تكون غايتكم التي تقيمون أنفسكم من خلالها هي مدى قدرة النظام المالي السعودي على الاستجابة لمتطلبات السوق في الوقت المناسب.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي