اقتصادنا .. والتغيير الوزاري المرتقب!
تنتظر البلاد في الأسابيع القليلة المقبلة أول تغيير وزاري موّسع في عهد ولي أمرها المحبوب خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز, أيده الله. ونظرا للتحديات الاقتصادية والاجتماعية الجسيمة التي تواجه اقتصادنا، فضلا عن التحديات السياسية والأمنية التي ما زال يفرضها تطور الأحداث وتعقدها في منطقتنا، فإن كثيرا من المخلصين في بلادنا من ذوى الرأي والنظر يتطلعون إلى أن تأتي هذه الوزارة بكفاءات مناسبة لتحديات هذه المرحلة، قادرة على مواجهة المشكلات الملحة وإجراء التطوير اللازم بروح شبابية وقادة، تستطيع تبنى برامج التغيير التي تجسد الامتياز في شكل العمل ومضمونه، وتثير عزائم الرجال من ذوي المهن والمهارات فتشحذ فيهم الهمم للكفاح وتحقيق الإنجازات، وتحيي في النفوس الرغبة في المنافسة وتحدى المستحيلات. لكن التغيير نحو الأفضل لا يقتصر على تغيير أشخاص الوزراء فقط، بل الأمر يتطلب تغييرات في الأنظمة والمؤسسات والأفكار، أو بمعنى آخر نحن في حاجة إلى تجديد البيئة التي يعمل من خلالها الوزراء. فوزراؤنا كانوا دوما من خيرة أبناء البلاد، وكل قد أبلى بما تسمح به وتساعد عليه البيئة التي يعمل من خلالها.
لا شك أننا اليوم أمام تحديات اقتصادية صعبة، تنتظر رجالا مخلصين ذوي قدرات استثنائية. فالاختناقات في اقتصادنا لا تزال تراوح مكانها, والمرء يمكن أن يفهم سبب تأخر فك الاختناقات في الاقتصاد وتباطؤ تنفيذ المشاريع والعجز عن مواجهة التحديات الاقتصادية الملحة، عندما تكون الموارد محدودة أو ضئيلة. لكن قطعا يصعب عليه أن يتصور فهم أسباب استمرار بقاء الاختناقات في اقتصادنا واستمرار تراجع المستوى المعيشي للمواطنين، وبقاء شريحة واسعة من الشباب والشابات عاطلين عن العمل، أو محبطين من عدم قدرتهم على مواصلة تعليمهم العالي. أقول يصعب تصور استمرار هذا الوضع في ظل نهر متدفق من الموارد الهائلة، وقدر هائل من الفرص الاستثمارية المتعددة وعدد كاف من الحوافز الاقتصادية المتجددة التي تنتظر فقط من يستغلها! وهو ما يدل على أن مشكلاتنا لا تعود إلى نقص في الإمكانات والفرص بقدر ما تعود إلى حاجتنا إلى التطوير وتحديث السياسات والتنظيمات.
لقد ترتبت على طفرة أسعار النفط في السنوات الأخيرة، فوائض مالية كبيرة، جعلت الناس يستبشرون ببداية مرحلة جديدة في ظل عهد جديد. وأخذت تطلعاتهم تكبر وآمالهم تشرق ببداية حقيقية لتحسين أحوالهم وتلبية حاجاتهم الضرورية التي كانت مؤجلة في الفترة السابقة، خاصة في مجال توفير الوظائف وتحسين خدمات التعليم والصحة والبنية التحتية . لكن يبدو أن فك الاختناقات ما زال يسير ببطء شديد حتى الآن. ثم جاءت نكبة سوق الأسهم لتعصف بآمال الناس ومدخراتهم التي جمعوها بنصب وتعب خلال سنوات طويلة، فإذا هم يرونها تتلاشى أمام أعينهم في ظرف أيام أو أسابيع. ثم ما كاد الناس يفيقون من هول هذه الصدمة المروعة، حتى بدأ يصيبهم قلق شديد على مستوى معيشتهم المتراجع، وهم يلحظون أنياب التضخم تنهش بشكل متتال ومتسارع البقية الباقية من دخولهم الجارية.
تأتي هذه الانتكاسة الاقتصادية لتمثل أخطر وأكبر تحدٍ اقتصادي واجه بلادنا في عصره الحديث! نظرا لذيوله الخطيرة على المستوى المعيشي ومستقبل القوة الشرائية لشريحة واسعة من المواطنين لفترة مقبلة غير قصيرة. فالناس لا تكاد ترسم الأحلام الجميلة بقرب حل مشكلات أبنائهم في التعليم والعمل، حتى تفاجأ بضياع مدخراتهم التي كانوا يعتمدون عليها لإعالة أبنائهم العاطلين حتى يقضى الله تعالى فيهم أمرا كان مفعولا!
تتوالى هذه التحديات لتضيف إلى ما يفرضه نمو السكان من ضغوط في مجال الخدمات العامة والإسكان. فمدننا الرئيسة ما زالت تعانى تراجعا في مستوى الخدمات البلدية وقصورا كبيرا في بعض خدمات المنافع العامة كالماء والصرف الصحي. هذا فضلا عما تكابده الأسر حديثة التكوين من مشقة بالغة في تملك الأراضي وغياب شبه كلي لبرامج التمويل الإسكاني المناسبة، الشبيهة بما يجرى في كثير من بلاد الدنيا. فقد غدا الحصول على أراض سكنية بتكاليف معقولة لا تزيد على القيمة المضافة لما جرى عليها من تحسين وتسوية وتمهيد، أمرا مستحيلا. هذا غير ما يكابده الناس من صعوبة التمويل وقوائم الانتظار الطويلة لدى صندوق التنمية العقاري ! كل هذا ونحن نتكلم – كما ترى - عن حاجات أساسية وليس عن حاجات تحسينية أو كمالية. وكنت قد تحدثت عن مشكلة الإسكان بتفصيل في المقالين السابقين.
إن هذه التحديات الاقتصادية الداخلية, فضلا عن التحديات السياسية الخارجية، تحتم علينا سرعة تبني استراتيجيات وبرامج جديدة برؤى متقدمة تتناسب مع درجة جدية وخطورة المرحلة. استراتيجيات تركز على حماية أمننا الاجتماعي والاقتصادي الداخلي بالقدر نفسه الذي نبديه في تقوية أمننا (الدفاعي) الخارجي. إن صلابة جبهتنا الداخلية هي الرصيد الحقيقي للأمة في مواجهة المخاطر عند حدوثها, لا قدر الله. لكن تقوية جبهاتنا الداخلية تتطلب في الوقت نفسه سرعة تبني برامج التطوير في الأنظمة والمؤسسات، والقضاء على مظاهر الفساد، والأخذ بسياسات اقتصادية واجتماعية حصيفة غير مترددة تتصف بالمرونة والواقعية وتتخطى الروتين وتتصدى بعزائم غير تقليدية للعقبات الإدارية والتنظيمية، لنتمكن من مواجهة الاختناقات التي يعانيها الناس والاقتصاد أفرادا وعائلات ورجال أعمال.
لم تعد المرحلة تتحمل الأساليب التقليدية القديمة في الإدارة. نحن في حاجة إلى أساليب حديثة وكفاءات شبابية محترفة تستطيع في ظرف أسابيع وربما أيام استيعاب المشكلات واحتواءها، ثم وضع خطط التطوير والمواجهة، لعرضها على ولاة الأمر والحصول على دعمهم المطلق للمضي قدما في إصلاح وإنقاذ ما يمكن إنقاذه. فالإخفاقات الاقتصادية التي عاناها الناس في السنوات الأخيرة، تدل على الحاجة ليس فقط إلى تغيير الأشخاص وإنما أيضا إلى تجديد وتطوير المؤسسات والسياسات والأفكار والكفاءات، تجديدا استثنائيا. إن التاريخ لا يحفل بالأفكار وروادها، ولا بالرؤى وأصحابها، وإنما بالمشاهد من أعمالها وإنجازاتها.