هوس إلغاء الاعتماد على النفط
بلغ الكلام عن إلغاء الاعتماد على النفط في الولايات المتحدة حد الهوس لدرجة أن الفترة الأخيرة لم تشهد اتفاقاً بين متطرفي اليسار واليمين فقط، وإنما حتى بين المعتدلين من الطرفين. لقد أصبح ما يعرف بـ "استقلال الطاقة"، الذي يعني حرفياً "إلغاء استيراد النفط" موضة كل الفصول في واشنطن، خاصة عندما يصبح الموضوع محور خطب رئيس الجمهورية، ورئيسة الكونغرس، وكل من يجهز نفسه للترشيح لمنصب رئيس الجمهورية في عام 2008.
لقد بلغ الموضوع حد "الهوس" لأنه لو فكر هؤلاء لمدة ثوان فيما يقولونه لما قالوا ما قالوه. لكن يبدو أن الأوضاع بعد حادثة 11 سبتمبر علمت السياسيين في واشنطن درساً مفاده أن النجاح السياسي في الولايات المتحدة يتوقف على قدرة السياسي على العزف على أوتار الخوف لدى الشعب الأمريكي، خاصة وتر الطاقة. الواقع يشير إلى أن "وتر الطاقة" أكثر حساسية من "وتر الإرهاب" لأنه ما من عائلة أو شركة إلا وتتأثر بارتفاع أسعار البنزين، أو الغاز الطبيعي، أو وقود التدفئة، أو الكهرباء، بينما يطول الإرهاب أعداداً وفئات قليلة جداً من المجتمع.
مشكلة الطاقة في الولايات المتحدة بين الحقيقة والوهم
عانى الشعب الأمريكي في السنوات الأخيرة من أربعة أمور:
1. عجز في إمدادات الكهرباء في كاليفورنيا، خامس أكبر اقتصاد في العالم.
2. ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي بشكل كبير لدرجة أن كثيراً من العائلات عجزت عن دفع فواتيرها الشهرية.
3. ارتفاع أسعار البنزين بأكثر من الضعف خلال فترة قصيرة نسبياً.
4. تضاعف أسعار وقود التدفئة في فصول الشتاء في السنوات الثلاث الماضية.
ما دور دول أوبك بشكل عام، ودول الشرق الأوسط بشكل خاص، في المشكلات السابقة حتى يقرر سياسيو أمريكا شن حرب شعواء على "اعتماد" أمريكا على واردات الطاقة من هذه الدول؟ المشكلة الأولى لا تتعلق بدول أوبك لأن دول أوبك لا تصدر الكهرباء إلى الولايات المتحدة. هذه المشكلة تتعلق بإمدادات الكهرباء وسقوط شركة إنرون ذات الارتباط الوثيق بإدارة الرئيس بوش. المشكلة الثانية لا تتعلق بأوبك ايضاً لأن دول أوبك لا تصدر الغاز إلى الولايات المتحدة. يعود وجود هذه المشكلة إلى سوء التخطيط الحكومي على المستويين الفدرالي والمحلي. فقد شجعت الحكومات المختلفة بناء المزيد من محطات الكهرباء اللتي تعتمد على الغاز الطبيعي كوقود، في الوقت الذي فرضت فيه العديد من القوانين البيئية اللتي منعت تطوير حقول الغاز في عدد من المناطق الأمريكية. يعود ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي إلى عدم قدرة منتجي الغاز الأمريكيين على مقابلة الطلب المتزايد على الغاز.
ارتفاع أسعار البنزين ووقود التدفئة مرتبط مباشرة بارتفاع أسعار النفط.
لكن الدول المنتجة للنفط لا علاقة لها بارتفاع أسعار النفط، ولاعلاقة لها بوصول أسعار البنزين ووقود التدفئة إلى مستويات قياسية في الولايات المتحدة. ارتفاع أسعار النفط يعود إلى عدم مواءمة النمو في الطاقة الإنتاجية في الدول المنتجة لنمو الطلب على النفط في الدول المستهلكة. إن أحد أهم أسباب عدم نمو الطاقة الإنتاجية في العقدين الماضيين هو السياسة الأمريكية الخارجية التي تضمنت فرض عقوبات اقتصادية على ثلاثة من كبار منتجي النفط: إيران والعراق وليبيا.
لم تصل أسعار البنزين إلى مستويات قياسية بسبب تصرفات أوبك أو بسبب التصرفات الإيرانية أو الفنزويلية، وإنما وصلت إلى هذه المستويات بسبب الأعاصير في خليج المكسيك التي دمرت جزءاً كبيراً من المنشآت النفطية وأغرقت بعض المصافي. وهنا لا بد من ذكر حقيقة مهمة وهي أن الحكومة الأمريكية شجعت الشركات عن طريق الإعفاءات الضريبية على الاستثمار في خليج المكسيك رغم أن تكاليف الإنتاج فيه هي الأعلى في العالم، ورغم وجود هذه المنشآت الضخمة في ممر الأعاصير الموسمية.
إذاً، أزمة الطاقة في الولايات المتحدة ـ إن كان هناك أزمة فعلاً ـ هي أزمة داخلية لا علاقة لها بالعوامل الخارجية. سواء كانت الولايات المتحدة معتمدة على النفط المستورد أم لا فإنها ستعاني من هذه المشكلات على كل الحالات.
ما لا يدركه المصابون بهوس إلغاء الاعتماد على النفط
1- إلغاء اعتماد الولايات المتحدة على النفط المستورد لن يخفض أسعار النفط فيها ولن يحمي أسعار الطاقة في الولايات المتحدة من التقلب الشديد. رغم الفروقات الإقليمية، إلا أن سوق النفط العالمية هي سوق واحدة وأي انقطاع للإمدادات في منطقة ما سيرفع الأسعار في كل مكان. بعبارة أخرى، ستكون أسعار النفط نفسها سواء كانت نسبة الاعتماد على النفط المستورد 100 في المائة، 20 في المائة، أو حتى 1 في المائة. إذا ارتفعت أسعار النفط خارج الولايات المتحدة فإن المنتجين الأمريكيين سيصدرون النفط الأمريكي لبيعه بسعر أعلى، الأمر الذي سيؤدي إلى رفع أسعار النفط داخل الولايات المتحدة إلى المستويات العالمية.
2- اكتفاء الولايات المتحدة ذاتياً يعني ارتفاع أسعار الطاقة إلى مستويات عالية جداً لم يشهدها التاريخ لأن تكاليف الإنتاج في الولايات المتحدة الأعلى في العالم.
3- إذا كانت الفكرة هي إلغاء الاعتماد على النفط تماماً فإن هذه سيدمر اقتصادات كبرى الولايات الأمريكية مثل تكساس وكاليفورنيا، وسيحرم الحكومة من مليارات الدولارات التي تجمعها كل سنة من الضرائب على المنتجات النفطية.