مفاهيم مغلوطة (2 من 2)
تحدثت في مقال الأسبوع الماضي عن الدراسة التي أجرتها مؤسسة قالوب بغرض استطلاع آراء الناس في كل من العالمين الإسلامي والغربي حول عدد من القضايا المشتركة. وأشرت فيه إلى أحد أهم النتائج التي انتهت إليها هذه الدراسة، وهو التأييد الواسع بين المسلمين في الدول الإسلامية التي غطاها المسح والتي تمتد من إندونيسيا حتى المغرب، لنموذج الحكم الذي يجمع بين الدين والديمقراطية. إذ حظيت الدعوة لاعتبار الشريعة مصدرا للتشريع بتأييد ما معدله 79 في المائة من سكان الدول العشر التي شملها الاستطلاع (وهي المغرب ومصر وتركيا ولبنان والأردن والسعودية وباكستان وبنجلادش وإندونيسيا) وانتهى المقال بطرح تساؤل - يبرز عادة من وجهة نظر الغربيين الذين يفهمون نموذجين فقط للحكم: كنسي ديني تسلطي، أو علماني تحرري - فهل يعني هذا التأييد الواسع للشريعة بين المسلمين، رفضا من قبلهم للقيم الديموقراطية ورغبة في الحكم المطلق؟
تجيب دراسة مؤسسة قالوب على هذا السؤال بالنفي من واقع نتائج هذا الاستطلاع. فأغلب مَن شملهم الاستطلاع يؤيدون حرية التعبير والدين والتجمع إضافة إلى حق المرأة في الانتخاب وقيادة السيارة والعمل خارج البيت إن رغبت بما فيه تولي المرأة أعلى المستويات في الدولة (باستثناء المملكة العربية السعودية التي لم يحظ فيها تسنم المرأة عملا قياديا في الدولة بموافقة الأغلبية). وتوضح هذه الدراسة أنه على الرغم من تأييد المسلمين الواسع للشريعة، فإن حماسهم وتأييدهم واسع أيضا لقيم الديمقراطية والمساواة. وقد يكون هذا أمرا بدهيا وواضحا عند كثير منا، لكن من المهم أن يكون هذا بينا وجليا أيضا عند الآخرين ويطلعون عليه من خلال دراسات علمية موضوعية محايدة.
وبناء على ذلك، يرى خبراء معهد قالوب أن الغرب عليه الاعتراف بأن فكرة فصل الدين عن الدولة لا تحظى بقبول واسع لدى معظم شعوب العالم الإسلامي، لكنها لا تعني قطعا ما استقر في فهم الغربيين من أن عدم الفصل يعني بالضرورة نموذج الحكم التسلطي الذي عانى منه الغرب ردحا من الزمن. بل يجدر بالغرب - والكلام لا يزال لخبراء معهد قالوب - أن يذّكر نفسه بأن العالم الإسلامي تمتع بعصر التنوير والتقدم الخاص به، حيث ازدهرت العلوم والمعارف والتقنية والفنون عندهم، ولكن في ظل الشريعة وليس خارجها.
ومن النتائج التي أظهرها الاستطلاع في هذه الدول الإسلامية العشر المذكورة أعلاه، والتي يبلغ عدد سكانها مجتمعة نحو 830 مليون نسمة ويمثلون 80 في المائة من سكان العالم الإسلامي، تدني شعبية أمريكا وبريطانيا لدى شعوب هذه الدول وارتفاع نظرة العداء والسلبية تجاههما، فضلا عن نظرة الريبة وعدم الثقة تجاه النوايا الأنجلوسكسونية في منطقة الشرق الأوسط. في حين يظهر الاستطلاع ارتفاع درجة القبول والنظرة الإيجابية لدى شعوب العالم الإسلامي تجاه دول الاتحاد الأوروبي كألمانيا وفرنسا. ما يعنى، في نظر خبراء معهد قالوب، أن الاتحاد الأوروبي لديه فرصة تاريخية للقيام بإصلاح العلاقة المتأزمة حاليا بين الغرب والعالم الإسلامي، من أجل تعزيز السلام وسبل التفاهم بينهما.
وتظهر الدراسة أيضا، أن الادعاء المتكرر الذي انتشر في الولايات المتحدة الأمريكية بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) سنة 2001 التي وقعت في نيويورك، من أن العالم الإسلامي ينظر عموما بعداء وسلبية لأمريكا موجود أيضا وبالقدر نفسه في الحضارة الغربية ككل. هذا الادعاء المغلوط والذي يضاف إليه أحيانا بأن الغضب تجاه أمريكا ما هو إلا جزء من كراهية أشمل للديموقراطية والحرية والمساواة بين الجنسين ! ثبت أن نتائج الاستطلاع ترسم صورة مختلفة تماما عن هذا الادعاء. فمن خلال أسئلة مفتوحة تتيح إجابات متعددة تم سؤال من شملهم الاستطلاع عما يمكن أن يفعله الغرب لتحسين العلاقات مع العالم الإسلامي، فلم يكن ضمن الإجابات الأكثر تكرارا التي تلقاها القائمون على الاستطلاع، دعوة المسلمين للغرب إلى التوقف عن ممارسة الديموقراطية أو الحرية أو العيش برخاء، بل كانت الدعوة المتكررة دوما هي أن على الغرب احترام الإسلام والمسلمين وتفادي النظرة الدونية لدينهم أو ربطه بالإرهاب. وكان مما يلي ذلك في الترتيب من وجهة نظر المسلمين حول كيفية قيام الغرب بتحسين العلاقات مع العالم الإسلامي، هو المساعدة في التنمية الاقتصادية التي تؤدي إلى توفير الوظائف. ويؤكد خبراء معهد قالوب أن هذه النتائج تدحض بجلاء وبمعايير موضوعية مقولة " أنهم يكرهون حريتنا " التي ما فتئ بعض المسؤولين الأمريكيين يتلفظون بها على نحو متكرر بعد أحداث نيويورك. كما أنها توضح أن المسلمين لا يصنفون كل الدول الغربية في خانة واحدة، ولا يقسمون العالم وفقا لتصنيفات جغرافية أو دينية.
وبجانب رغبة المسلمين في فهم أكثر لحضارتهم وتقدير أفضل لدينهم من قبل الغرب، يرى أيضا من جرى استطلاعهم من المسلمين أن على العالم الإسلامي ضرورة احترام الجوانب الإيجابية في الحضارة الغربية من أجل تحسين العلاقات مع الغرب، وأن يتحمل المسلمون مسؤولية عرض الإسلام للغرب بصورة أكثر إيجابية.
في حين عندما سئل الأمريكيون عما يعتقدون أن على المسلمين فعله لتحسين العلاقات مع العالم الغربي، كانت الإجابة الأكثر تكرارا هي أن عليهم تحسين سبل الاتصال (20 في المائة) تلا ذلك اعتقادهم بوجوب قيامهم بضبط أو القضاء على المتطرفين والإرهابيين (15 في المائة)، في حين رأى (10 في المائة) من الأمريكيين أن على المسلمين أنفسهم تحسين سبل تفهمهم معتقدات غيرهم.
وعندما سئل المسلمون عن أكثر ما يعجبهم عند الغربيين، كانت الإجابة الأكثر تكرارا هي مسألة إتقانهم التقنية الحديثة، تلاها تقدير المسلمين لدرجة الحرية السياسية وحرية التعبير التي يتمتع بها الغربيون، ثم إعجابهم بأخلاق العمل وكفاءة الإدارة.
في حين عندما سئل الأمريكيون عما يعجبهم في المجتمعات الإسلامية تراوحت إجاباتهم بين: لا شيء (32 في المائة) ولا أعرف (25 في المائة) والإخلاص لمعتقداتهم الدينية (22 في المائة).
بقي أن أشير إلى أن خبراء معهد قالوب ذكروا أنهم يثقون بهذه النتائج نسبة 95 في المائة مع هامش خطأ يترواح بين + 3 في المائة و– 3 في المائة.
يمكن أن تتعدد آراء الناس حول نتائج وطريقة تصميم هذا الاستطلاع، لكنه يظل لنتائجه إيجابيات يحسن بنا أن نتأملها.