هل هناك ضرورة لإنشاء مراكز علمية لدراسة إيران؟
منذ قيام الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 وتأسيس الجمهورية الجديدة هناك، والحديث عن الدور الإيراني في مناطق الخليج والشرق الأوسط ووسط آسيا يكاد يكون متواصلاً بلا انقطاع سواء على المستويات السياسية أو الإعلامية أو الأمنية والعسكرية. وخلال تلك العقود الثلاثة من عمر الجمهورية الإسلامية تتابعت أحداث كبرى في تلك المناطق الثلاث ارتبطت بها ارتباطاً مباشراً ولعبت فيها أدواراً متنوعة الأهمية وتأثرت بها مصالح دول عديدة معظمها بداخل تلك المناطق وبعضها خارجها. ولا شك أن تأثيرات السياسة الخارجية الإيرانية الجديدة قد مست تلك المناطق الثلاث بدرجات مختلفة فضلاً عن دول أخرى خارجها، إلا أن أكثر المناطق والدول تأثراً بتلك السياسة كانت هي تلك الموجودة في منطقة الخليج العربي المجاورة والمتاخمة لها والتي تظل مرشحة لأن تكون الأكثر تأثراً خلال المستقبل أيضاً.
ولا شك أن مختلف الدول المجاورة والمتاخمة لإيران قد قامت خلال كل الأزمات والصراعات والمراحل المختلفة التي مر بها الدور الإيراني في المناطق الثلاث بالتعامل معها عبر مختلف الأدوات المعتادة التي تمتلكها النظم السياسية من دبلوماسية وسياسية وأمنية وحتى عسكرية، ونجحت وأخفقت بدرجات متفاوتة في هذا التعامل. كما أنه لا شك أن علاقة الجمهورية الإسلامية هذا البلد الأكبر في منطقة الخليج مع معظم دول المنطقة لم تشهد بعد تأسيسها صراعات علنية عسكرية سوى مع بلد واحد منها هو العراق، إلا أنها أيضاً لم تشهد درجات وثيقة من التعاون المطمئن، وظل الشك والارتياب هو المميز لتلك العلاقات في معظم الأوقات. وقد وصل هذا الشك والارتياب في العلاقات الخليجية – الإيرانية إلى درجة التخوف في بعض المراحل من أهداف السياسة الإيرانية في المنطقة، كانت أولاها تلك السنوات التي تلت نجاح الثورة وتأسيس الجمهورية الإسلامية والتي خيم فيها خطاب "تصدير الثورة" إلى دول الجوار على قادة ورموز النظام الإيراني الجديد حينئذ. ووصلت التخوفات الخليجية من الدور الإيراني الإقليمي إلى درجة أعلى مع اندلاع الحرب مع العراق بعد عام واحد من نجاح الثورة، والتي هددت خلال سنواتها الثماني بصورة جدية استقرار المنطقة كلها ومعها المناطق المجاورة في الشرق الأوسط والعالم العربي، وترافقت مع شعور أعمق من دول الخليج العربية بالتهديد المباشر لمصالحها وأمنها من الجانب الإيراني.
وأتت أخيراً المرحلة الحالية التي يمكن التأريخ لها ببدء الغزو الأمريكي – البريطاني للعراق واحتلاله والتي بدأت فعلياً بالحصار الأمريكي المحكم الذي ضرب عليه بعد فشل غزوه للكويت وانسحابه منها عام 1991. وقد بدا واضحاً منذ بداية تلك المرحلة وبخاصة في الفترة الأهم فيها التي تلت احتلال العراق أن ثمة تطورا واضحا وكبيرا في الدور الإيراني في منطقتي الخليج والشرق الأوسط يتخذ من دور أكثر أهمية ومحورية بداخل العراق نفسه القاعدة الرئيسية التي يستند إليها. ولم يكن لهذه القاعدة الرئيسية للدور الإيراني الإقليمي في العراق أن تكون صلبة وواسعة بما يكفي لاتساع وتمدد هذا الدور لولا السياسات الخرقاء التي اتبعتها الإدارة الأمريكية منذ البداية في إدارتها للأزمة العراقية سواء قبل الغزو أو بعد الاحتلال. كذلك بدا واضحاً أن السياسات الأكثر من خرقاء التي اتبعتها الإدارة الأمريكية والحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تجاه العالمين الإسلامي والعربي والشعبين الفلسطيني واللبناني والحكومة السورية، قد كان لها مفعول السحر في دعم وتوسيع الدور الإيراني في منطقتي الخليج والشرق الأوسط يوماً بعد آخر بل وساعة بعد أخرى.
وبالرغم من تلك المراحل الثلاث المتتابعة لتطور الدور الإيراني في منطقتي الخليج والشرق الأوسط وبخاصة في المنطقة الأولى، إلا أن التعامل معه ظل كما سبق وذكرنا مقتصراً على الأدوات الرسمية المتعددة التي تمتلكها الدول في تلك المناطق. ولم يحدث خلال تلك السنوات الطويلة أن سعى المسئولون السياسيون أو النخب الأكاديمية والسياسية في أي من تلك البلدان العربية المجاورة والمتاخمة لإيران إلى إنشاء مراكز للأبحاث أو للتفكير حول الظاهرة الإيرانية بكل جوانبها سواء الداخلية أو الخارجية، لكي تشكل القاعدة العلمية لمعرفة حقيقة ما يحدث هناك ومحاولة توقع المسارات المستقبلية التي يمكن أن تتطور إليها تلك الجوانب ووضع تصورات وخيارات مختلفة للتعامل مع كل منها. ولا شك أن الأدوار التي تلعبها مثل تلك المراكز في توفير المعرفة العلمية واقتراح البدائل والسياسات تبدو شديدة الوضوح في المجتمعات الغربية وبخاصة في المجتمع الأمريكي الذي تشكل فيه القاعدة الأبرز التي يستند إليها صناع القرار في صوغ كثير من السياسات الخارجية لبلادهم.
من هنا فإن خلو الدول العربية في منطقتي الخليج والشرق الأوسط من أي مراكز متخصصة للبحث أو التفكير في مختلف الجوانب الإيرانية ينقص دون أي شك من قدرة دولها ونخبها ومجتمعاتها على الفهم الأكثر دقة لما يحدث بداخل إيران وما يمكن أن تتضمنه سياستها الخارجية تجاه المنطقتين. والحاجة إلى مثل تلك المراكز العلمية المتخصصة ليست مرتبطة بما قد تمثله تلك السياسة الإيرانية الداخلية أو الخارجية من "تهديد" لأي من الدول العربية المجاورة والمتاخمة لها، بل هي حاجة مستمرة ودائمة لفهم ما يحدث وتوقع ما يمكن أن يحدث بداخل ومن جانب تلك الدولة التي سيظل لها تأثيرها الكبير والمتواصل في مختلف تلك الدول.