الاستثمار الأجنبي .. مخاوف وضوابط
تعد الهند في مقدمة الدول التي نجحت في استقطاب استثمارات أجنبية مباشرة من المقدّر أن تصل خلال العام الجاري نحو عشرة مليارات دولار. ولم يكن ذلك الإنجاز إلا نتاجاً لعمل مؤسسي وتخطيط شامل طويل المدى لتهيئة المناخ الجاذب لتلك الاستثمارات في بيئة ترتكز فلسفتها على الرقي بجودة التعليم ومخرجاته. غير أن اللافت للنظر ما نشرته جريدة International Herald Tribune في أواخر شهر آب (أغسطس) الماضي عن الخطوات التي شرعت فيها الهند لوضع قوانين جديدة للتصدي للمخاطر المرتقبة من العولمة السريعة. إذ بدأت تطفو على السطح في الآونة الأخيرة مخاوف لدى الأوساط الرسمية هناك من اختراق بعض الاستثمارات الأجنبية مفاصل مهمة للأمـن الوطني كالاتصالات، الإعلام، النقل الجوي، والموانئ البحرية. وتلك المخاوف لا تنفرد بها الهند وحدها، إذ يشاركها عدد كبير من الدول التي تحظى بإقبال المستثمرين الأجانب، وصفقة موانئ دبي كانت أحد الأمثلة التي تناولتها وسائل الإعلام بإسهاب.
المملكة العربية السعودية أيضاً من الدول الجاذبة للاستثمارات الأجنبية ولها سجل جيد في هذا المضمار، ولاسيما في السنوات الثلاث الماضية، بفضل الله تعالى، ثم بفضل الإصلاحات الاقتصادية التي يقود مسيرتها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز. وهي قائمة طويلة من الاستثمارات، من بينها مشاريع الغاز، الصناعات البتروكيماوية، المصافي، الاتصالات، المدن الاقتصادية، المياه، والموانئ، والقائمة في ازدياد، بإذن الله. ومن ثم فمن الطبيعي أن يتبادر إلى ذهن القارئ سؤال عما إذا كانت هناك ضوابط أو آليات للتعامل مع ما قد يكون هناك من مخاوف من تلك الاستثمارات على غرار التجربة الهندية أو غيرها.. وللإجابة على ذلك، سأعرض الضوابط التي وضعتها المملكة لبرنامج تخصيص خدمات الموانئ السعودية التي تعد أكبر شبكة للموانئ البحرية في الشرق الأوسط.
بداية كان هناك قرار استراتيجي بعدم بيع الأصول واحتفاظ الدولة بملكية المنشآت والتجهيزات، وأن يكون محور التخصيص تطوير الخدمات والاستثمار في تجهيزات ومنشآت جديدة تؤول ملكيتها للدولة وهو خيار أخذت به جميع دول العالم تقريباً، عدا استثناءات معدودة. وبالرغم من الحكمة الساطعة في ذلك القرار، إلا أنه كان محل عجب واستغراب لدى البعض وهم قلة ومنهم مسؤولون سابقون في مراكز رفيعة توهموا أن التخصيص لا تكتمل أركانه إلا بنقل ملكية الأصول والمنشآت من الحكومة إلى القطاع الخاص.
لم تكتف الدولة بإطلاق برنامج تخصيص الموانئ ضمن ذلك الضابط العام فحسب، بل رأت وضع ضوابط أخرى، إذ إن المملكة تعتمد في تجارتها على الموانئ بنسبة 95 في المائة تقريباً من الصادرات والواردات. ومن ثم لم يُسمح لمقاول واحد بأكثر من عقد لمناولة البضائع في الميناء نفسه لضمان وجود أكثر من بديل عند الحاجة لأي سبب كان، وتوفيراً لعنصر المنافسة. ويعد ذلك الضابط محوراً أساسياً في البرنامج لمنع الاحتكار أو التلاعب بمصلحة الاقتصاد الوطني في مرفق حيوي كالموانئ، كما أنه منح المستفيدين من الخدمة من تجار وسفن وغيرهم خيارات لم تكن متاحة من قبل.
لا شك أن المنافسة تعد آلية جيدة لتنظيم الأسعار التي تباع بها السلعة أو الخدمة، إلا أن البرنامج تحسّب لنشوء تحالفات خفية بين المتنافسين على حساب المستهلك، ولذا وُضع ضابط آخر في التعاقد مع المستثمرين يحدد سلفاً سقفاً ثابتاً لأجور الخدمات لا يُسمح بتجاوزه طوال فترة التعاقد مع فتح المجال أمام كل مستثمر لتقديم حسومات لعملائه. بمعنى آخر لا بد للبرنامج أن يستمد نجاحه من إدارة العمل بكفاية أعلى واستخدام أفضل للموارد المتاحة وليس على حساب المستهلك.
لقد أثبتت التجربة كفاية تلك الضوابط لإدارة برنامج تخصيص خدمات الموانئ السعودية، الذي انقضى من عمره عشرة أعوام، تقف شاهدة على التوفيق الذي كتبه الله تعالى لقرار خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز عندما اختار الموانئ لإطلاق أول برنامج للتخصيص في المملكة يوم أن كان ولياً للعهد، وحرصه ـ حفظه الله ـ على أن تكون تلك التجربة نموذجاً للآخرين.