مفاهيم مغلوطة (1 من 2)

[email protected]

تلقيت دعوة كريمة من معالي أستاذنا الدكتور أحمد علي رئيس بنك التنمية الإسلامي وسعادة أخي المهندس محمد جميل، لمشاهدة عرض نتائج الدراسة الواسعة التي أجرتها مؤسسة قالوب Gallup لاستطلاع آراء الناس في العالمين الإسلامي والغربي حول عدد من القضايا المشتركة. كان العرض تحت رعاية مؤسسة عبد اللطيف جميل، واستضافه البنك الإسلامي في قاعة المحاضرات بمبنى البنك بجدة قبل عطلة عيد الأضحى. وسأستعرض أهم نتائج هذا الاستطلاع في مقالي اليوم وفي المقال الذي يليه.
تأتي هذه الدراسة ضمن برنامج مستمر تنوى مؤسسة قالوب تحديثه وتجديده ونشر نتائجه على موقعها في الشبكة الدولية للمعلومات (الإنترنت)، بجانب قيامها بتزويد أهم ألف شخصية عالمية من صناع القرار وأصحاب الرأي من السياسيين والمفكرين والإعلاميين بنتائج هذه الدراسة. وغرض مؤسسة قالوب من القيام بهذه الدراسة، ليس التدخل في تشكيل سياسات صناع القرار وإنما إيصال الحقيقة إليهم كما هي قائمة في الواقع وبطريقة مجردة من الميول والأهواء الشخصية، وذلك من خلال دراسة مهنية احترافية مبنية على استطلاع الآراء بطرق موضوعية. أما هدف الدراسة النهائي فهو المشاركة في تحسين سبل التفاهم بين مختلف الشعوب والثقافات من أجل ترسيخ أسس السلام العالمي.
ومن الواضح أن التوتر الذي شاب العلاقات بين العالم الغربي والإسلامي بعد أحداث نيويورك عام 2001م، وما تلاه من رد فعل متطرف من جانب بعض السياسيين الغربيين، كان دافعا للقيام بهذه الدراسة خشية من تصاعد هذا التوتر لما له من نتائج خطيرة في حال عدم كبح جماحه على الاستقرار والسلم العالميين.
وعلى الرغم من أن بعض المراقبين في مجتمعاتنا من المهتمين بالعلاقات بيننا وبين الغرب يعتقدون بقوة أن صناع القرار في بعض الدول الغربية وخاصة في أمريكا وبريطانيا يعلمون الحقائق ولكنهم يلوون عنقها ويطلقون تصريحات مضللة، إلا أنه يظل لنشر نتائج مثل هذه الدراسات التي تتقصى آراء العامة من خلال معايير موضوعية، أهمية بالغة ستساعد في نظري في فضح هذه الادعاءات وتواريها. كما أنها ستمكن المعتدلين من الاستناد إلى مثل هذه النتائج لتسفيه آراء المتطرفين، من أجل المضي قدما نحو تحسين سبل التفاهم بين الشعوب والثقافات.
لقد نشطت بعض القوى المتطرفة من السياسيين الغربيين في السنوات الأخيرة في إطلاق بعض الادعاءات الكاذبة والممجوجة من نوع (إنهم يكرهون حريتنا، أو يعادون ديمقراطيتنا، أو يرغبون في تدمير مكتسباتنا و حضارتنا، أو يحسدوننا على مستوى معيشتنا، أو نحو ذلك من الادعاءات الذي أثبتت هذه الدراسة بصورة قاطعة عدم صحتها). لكن تطور الأحداث بالإضافة لنتائج هذه الدراسة أثبت أن غرض هذه الفئة في الحقيقة هو استغلال بعض الأحداث لتنفيذ سياسات وخطط خبيثة مسبقة هدفها السيطرة على المنطقة عسكريا واقتصاديا، وهي سياسة مبنية على منطق القوة التي لا تتجرأ إلا حيث يكون الضعفاء، لكنها في الوقت نفسه سياسة تتسم بالغباء والتناقض ـ كما أثبت واقع الأحداث ذلك - فضلا عن افتقارها المطبق إلى الحكمة مما يؤول إلي نتائج عكسية. لكل ذلك فإني أعتقد أنه في ظل عدم تساوى القوى بيننا وبين هؤلاء من كافة النواحي - بما فيها القوة الإعلامية- فإنه سيكون لمثل هذه الدراسات قيمة ودلالة وإيجابيات ذات بال.
إن مثل هذه الاستطلاعات تصحح حقيقة، بعض المفاهيم المغلوطة التي نجدها رائجة مع الأسف حتى بين بعض المثقفين الغربيين. ومنها مثلا ما يتعلق بنموذج الحكم المثالي. إذ يسود اعتقاد واسع بين الغربيين أن هناك نموذجين متعارضين للحكم. نموذج يعود في الأصل لمدينة القدس باعتبارها مهد المسيحية، حيث يسيطر فيه الدين على الحكم ولا يوجد فصل بين الكنيسة والدولة، بل يحكم الامبراطور حكما شبه مطلق باعتبار أنه يرى نفسه في الوقت ذاته رأس الكنيسة. ومعروف أن المجتمعات الغربية قد عانت كثيرا من هذا النموذج التسلطي الذي منع تقدمها ردحا من الزمن. ونحن نفهم أن هذا القيد لم يكن بالضرورة بسبب الدين وإنما بسبب بعض المفاهيم الكنيسية الملصقة بالدين المسيحي.
وهناك نموذج ثان يعود إلي مدينة أثينا باعتبارها في تاريخهم تمثل سيادة العقل والمنطق، حيث يكون للشعب القول الفصل فيمن يحكمه. و يجنح كثير من المثقفين الغربيين كما يقول "نوح فيلدمان " في كتابه "بعد الجهاد"، إلى تقييم الحضارات الأخرى من خلال هذين النموذجين. وهو تقييم يقودهم إلي الافتراض بأن أي نموذج آخر للحكم المثالي لا يتفق مع نموذج أثينا العلمانية، فإنه بالضرورة سيصنف تحت النموذج الكنسي التسلطي. وكثير منهم يجهل أو لا يستطيع أن يفهم أن في تاريخ المسلمين نموذجا ثالثا يجمع بين الدين والتقاليد الديموقراطية التي يعرفونها.
لقد كان من أهم النتائج التي توصل إليها هذا الاستطلاع هو التأييد الواسع بين المسلمين في الدول الإسلامية التي غطاها المسح والتي تمتد من إندونيسيا حتى المغرب، للنموذج الثالث للحكم الذي يجمع بين الدين والديموقراطية. لذا يعتقد خبراء هذا الاستطلاع أن فهم هذا النموذج الثالث قد يكون المدخل الصحيح لمن يهتم صادقا ويرغب من الدول الغربية في مساعدة المجتمعات الإسلامية في بناء الديموقراطية الحقيقية المرغوبة من قبل شعوب هذه المناطق.
صحيح أن الاستطلاع أظهر عددا من الاختلافات بين الدول الإسلامية التي شملها المسح، غير أن كثيرا من هذه النتائج شكلت مفاجأة للقائمين على الاستطلاع، وهي تدحض بقوة ما كان شائعا بين الغربيين من معلومات أو ادعاءات مغلوطة! ومنها أن الاستطلاع اكتشف ـ على عكس ما كان يتصوره الغربيون - أن هناك تأييدا كبيرا للشريعة بين المسلمين في هذه الدول. بل إنه لوحظ أن الشريعة تحكم وبشكل واسع جميع مناحي حياتهم. في حين أن الغرب كان ينظر إلى الشريعة على أنها مجموعة من القوانين والنظم الجائرة التي يؤيدها فقط حفنة من المتطرفين وتمقتها النساء. بينما أظهر الاستطلاع أن الدعوة لاعتبار الشريعة مصدرا للتشريع تحظى بتأييد ما معدله 79 في المائة من سكان الدول العشر التي شملها الاستطلاع (وهي المغرب ومصر وتركيا ولبنان والأردن والسعودية وباكستان وبنجلادش وإندونيسيا)، وإن تراجعت هذه النسبة في تركيا لأسباب معروفة تتعلق بدستورها الذي خلعه عليها أتاتورك.
هل يعنى هذا التأييد الواسع للشريعة بين المسلمين، رفضا للقيم الديموقراطية ورغبة في الحكم المطلق؟ نتابع بحول الله تعالى الإجابة في مقال السبت المقبل.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي