جهود الدولة واجتهادات العلماء
تحدثت في مقالات سابقة عن أحكام البناء في منى في الفقه والنظام، ودلالة أن الحج عرفة، وضرورة توفير المكان للعبادة. وأشرت إلى ما ورد في ذلك من نصوص، وأن فيه مصالح عظيمة لجموع المسلمين قاطبة لما فيه من خدمة لحجاج بيت الله الحرام وتسهيل لهم لأداء حجهم على أكمل وجه، وأن النظام السعودي منع التملك في منى وبقية المشاعر، وحظر على الجهات القضائية إصدار صكوك تملك فيها "كما هو نص المادة 259 من نظام المرافعات الشرعية"، ولا بد من الإشارة هنا والإشادة بالجهود المبذولة في هذا الإطار من قبل الدولة بما يعود بالنفع على حجاج بيت الله الحرام على كل المستويات، وهي جهود واضحة للعيان لا تحتاج إلى كثير عناء للقناعة بها.
ويبدو أن من كبرى العقبات التي تواجه الحاج، التي يحمل لها هما كبيرا، هي توفير مكان مناسب له ومَن معه ليرتاح ويبيت فيه ويضع حاجياته ويتفرغ للعبادة. وفي رأيي أن هذا من أهم المتطلبات التي تحتاج إلى عناية فائقة من قبل الدولة بأجهزتها المختصة. وأعلم أن هذا لم يفت المسؤولين والمختصين، وأن مشروع خيام مَنى مثال على ذلك، والذي أدى دورا كبيرا في معالجة الوضع فيها.
ولأننا شاهدنا ثمرات هذا المشروع الضخم "خيام منى" حين المقارنة بالوضع قبل ذلك، فنتمنى أن يكون هناك معالجة سريعة في المزدلفة وعرفات لتوفير مكان مناسب للحجاج لأداء عبادتهم على أكمل وجه وبالذات في عرفة والتي قال النبي - صلى الله عليه وسلم - عنها: "الحج عرفة "، والمراد بذلك زمانها ومكانها، فإذا كان هذا شأنها ومكانتها في الحج، وأن العبادة فيها من أفضل العبادات صلاة ودعاء وقراءة للقرآن فإن الحاج بأمس ما يكون إلى أن يتفرغ لذلك، وكم رأينا وسمعنا وعايشنا ما يلاقيه الحاج في سبيل هذا الأمر.
وأقترح هنا إعادة النظر بجدية في المواقع المخصصة للدوائر الحكومية داخل عرفات مساحة ومكانا، فبعض الدوائر الحكومية لا يتطلب الأمر أن يكون لها مكان مخصص في عرفات أصلا، وأما التي يتطلب الأمر أن يكون لها أماكن لأهميتها وخطورتها فلابد أن يكتفي بأقل ما يحقق المطلوب للعمل فيها، وليس منه بالطبع تحجيج الأهل والأصدقاء، كما لا بد من النظر في مواقع هذه الدوائر بحيث لا تسبب تضييقا على الحجاج حال دخول العاملين فيها أو خروجهم، ومَن شاهد النقل الحي من العلو لوقوف الناس في عرفات سيلحظ ما يستوجب إعادة النظر في المساحات المخصصة لهذه الدوائر، وكيف أن الناس يتزاحمون حول هذه المواقع والبعض منها فيه مساحات فارغة.
كما أن من أفضل ما تم بناؤه وتطويره في هذه السنة ما يتعلق بالجمرات من حيث زيادة الأدوار وتوسيعها، وزيادة مساحة الشاخص فيها، وهذه الجهود تحتاج إلى الاجتهادات الموسعة والميسرة للناس تحقيقا للقواعد العامة في الشريعة الإسلامية الداعية لليسر، والناهية عن الحرج. والنصوص الخاصة في الحج الناصة على هذه المعاني، ومن أشهرها قوله - صلى الله عليه وسلم: "افعل ولا حرج"، وإن كان النص واردا في يوم النحر فإن دلالته تمتد لتشمل كل ما من شانه أن يكون مجالا لرفع الحرج، فالمصطفى - صلى الله عليه وسلم - أوتي جوامع الكلم. كما أن الأمر كذلك يحتاج إلى وعي عال من الحجاج في أعمال الحج ومقاصده، وضرورة الرقي في التعامل والأخلاقيات واحترام التوجيهات. أسأل الله أن يتقبل من الحجاج حجهم، وكل عام وأنتم بخير.