من يحاسب المحاسب القانوني ؟
أشير في البداية إلى أنني استعرت عنوان هذه المقالة من اسم كتاب قيم أصدره مؤخرا أخي الدكتور حسام بن عبد المحسن العنقري أستاذ المحاسبة والمراجعة المشارك بجامعة الملك عبدالعزيز، وتطرق فيه لإحدى عشرة قضية مهمة تتعلق بعمل المحاسبين القانونيين، والكتاب بالمناسبة جدير بالقراءة ليس من قبل المتخصصين فقط بل وأيضا كل من له علاقة بالشأن المالي والاقتصادي لدينا ولاسيما المسؤولين منهم، فبين دفتيه تشخيص لبعض الظواهر السلبية في عمل مراجعي الحسابات ووصف للعلاج وهو على كل حال خلاصة أبحاث علمية ومقالات قيمة لخبير متخصص بذل الكثير من الجهد والوقت ليخرج بهذا الكتاب القيم.
أعود لموضوع المقالة فقد سألني أحد طلابي في مادة المراجعة قبل أيام عن الطريقة التي يتم بها حساب علاوة الإصدار وكان يشير في ذلك إلى تساوي علاوة إصدار كل من شركتي البحري والمتطورة بالرغم من الفارق الذي يراه في الموقف المالي للشركتين ومؤشراتهما المالية، فشرحت له ذلك، إلا أنه استدرك بعد الإجابة قائلاً: يعني ذلك أن القوائم المالية لأي شركة هي الأساس الذي ينطلق منه المستشار المالي في تحديد علاوة الإصدار، فأجبته نعم، قال: من يعد القوائم المالية؟ قلت: أن كنت لا تعلم وأنت تدرس الآن مادة المراجعة فمن يعلم؟ أجاب: أعلم أن الشركة هي من يعدها، ولكن كيف يمكن لأي أحد أن يتأكد من أن إدارة الشركة لن تقوم بتجميلها أو تحسينها أو تزويرها كي تعكس موقفا ماليا قويا يبرر علاوة الإصدار التي تخطط لجنيها خصوصا أن الأمر يتعلق بمئات الملايين سيدفعها المكتتبون كعلاوة إصدار؟
قلت: هذا هو مربط الفرس الذي بح صوت أستاذك من التنبيه إليه ولكن لم يجد آذانا صاغية حتى الآن !!
قال :كيف؟
قلت: القطاع الخاص لا يقوم ولا ينمو في أي اقتصاد دون إقراض واقتراض (الائتمان المصرفي) وهذا لا يقوم دون قوائم مالية تحظى بالثقة من قبل المقرضين والثقة لا تأتي إلا عن طريق مراجع قانوني مستقل ومؤهل يبذل من خلال عمله العناية المهنية الواجبة التي نصت عليها معايير المراجعة والتي تكفل وصوله لقناعة بأن القوائم المالية للشركة تعكس موقفها المالي ونتائج أعمالها بدقة ويقرر بذلك للمساهمين والمستفيدين الآخرين ومنهم المقرضون الممثلون اليوم بالبنوك التجارية.
قال: يعني ممكن أن يعطي مراجعو الحسابات تقارير غير صحيحة؟
قلت: التعميم لا يجوز في مثل هذه المسألة، فهناك مراجعون يحظون بالاحترام ولهم سمعة طيبه إلا أن معطيات متعددة تجعلني أميل إلى أن بعضا من مكاتب المراجعة لا تبذل العناية المهنية الواجبة التي تتطلبها معايير المهنة، فكيف يمكن تفسير قيام مراجع حسابات بمراجعة شركة ما لها فروع منتشرة في أنحاء المملكة مقابل أتعاب لا تكفي لشراء تذاكر السفر لموظفيه للوقوف على هذه الفروع أو أن يتنافس المراجعون على التعاقد مع أحد العملاء ويقدموا تخفيضات تخل بمهنية عملهم أو أن تلجأ لجنة المراجعة في الشركات إلى ترشيح العرض الأقل دون الالتفات لجوهر عملية المراجعة ومتطلباتها أو أن يقوم بعض المكاتب بعمليات مراجعة لعملاء كثر بينما عدد موظفيها لا يؤهلها لذلك وغيرها كثير.
قال: كيف نتأكد من جودة عملهم؟
قلت: الأمر رهن برنامج قوي ومستمر لمراقبة جودة الأداء المهني لجميع المكاتب المرخصة من قبل هيئة المحاسبين القانونيين فعن طريق هذا البرنامج يمكن رفع جودة الأداء المهني ليتسق مع متطلبات معايير المراجعة وهذا بدوره سيجعل القوائم المالية تحظى بالمزيد من الثقة لدى المستفيدين كافة.
قال: (وش يمنع؟)
قلت: البرنامج موجود ولكنه يحتاج إلى تمويل لتفعيلة على الوجه المطلوب، فعدد مكاتب المحاسبة والمراجعة يصل إلى 120 مكتب تنتشر في مدن المملكة والإمكانات المالية لهيئة المحاسبين ضعيفة ولا تكفي لتفعيل البرنامج ليقوم بدوره المهم والحيوي فهو يحتاج إلى تفريغ فرق عمل مؤهلة وهذا أمر مكلف، أضف إلى ذلك أن الهيئة لم تحظ بالدعم الكافي والمأمول من قبل وزارة المالية مثل الهيئات والمجالس الأخرى التي تخصص لها الوزارة سنويا مبالغ جيدة بالرغم من أن عملها مهم ويصب في تحقيق الأمن المالي للمملكة، ومن الخطورة التقليل من أهمية عملها للاقتصاد الوطني.
قال: معقول 120 مكتبا فقط تخدم آلاف الشركات؟
قلت: سبق أن ذكرت لك أن هناك ضعفا واضحا في الأداء المهني وإلا كيف تفسر أن يغطي ذلك العدد القليل من المكاتب مراجعة القوائم المالية لنحو 14 ألف شركة مرخصة ونحو 600 ألف مؤسسة إلا إذا كان الأمر شكليا.
قال: يعني مكتب مراجعة لكل 5 آلاف شركة ومؤسسة؟
قلت: نعم وهذا يعود من وجهة نظري إلى أن هناك تنافسا محموما بين المكاتب الموجودة للفوز بعقود مع منشآت القطاع الخاص وبأي ثمن، وهو ما أسهم في تدن مريع للأتعاب التي تتقاضاها مما أدى لأن يكون الأداء المهني متسقا مع حجم الأتعاب بدلا من أن يكون متسقا مع متطلبات العمل المهني، وهنا تكمن الخطورة، وهذه الظاهرة بالمناسبة جعلت بعض المكاتب تخرج من السوق نهائيا لأنها تكبدت خسائر من عمليات المراجعة التي تقوم بها وهي لا تستطيع أن ترفع من قيمة أتعابها بسبب المنافسة وفي الوقت نفسه لا تستطيع مهنيا مخالفة متطلبات العمل وأخلاقياته، أما بعضها فأصبح يعتمد على تقديم الاستشارات بالرغم من أنه يخسر في المراجعة، واستمرار هذا الأمر جعل مهنة المراجعة غير ذات جدوى للعاملين بها وأسهم أيضا في تعثر تعيين سعوديين مؤهلين لانخفاض المزايا المالية التي يمكن أن تدفعها لهم، والخلاصة أننا ندور في حلقة مفرغة.
قال: ما دام أن عمل الهيئة بهذه الأهمية للنظام المالي في المملكة من خلال التقارير المالية للشركات والبنوك وما يبنى عليها من إقراض واقتراض واكتتاب، لماذا لا تكون الهيئة تحت مظلة وزارة المالية بدلا من وزارة التجارة؟
قلت: لو حصل ذلك فعلا لأمكن هيئة المحاسبين من تحقيق أهدافها المهمة ولكانت من أفضل الهيئات المهنية في العالم ولا تسألني لماذا، لأن عمل الهيئة يوفر ضمانة لكثير من رجال الأعمال فهناك من يشتري أسهما تبلغ قيمتها مئات الملايين اعتمادا على القوائم المالية التي لا تحظى بالثقة دون تقرير من مراجع الحسابات كما أن علاوة الإصدار لبعض الشركات تتجاوز رساميلها وهي الأخرى تعتمد على تقرير مراجع الحسابات عدا صفقات الاندماج والاستحواذ وغيرها، وجميع تلك الأحداث المالية مؤثرة في الاقتصاد الوطني وهذا ما جعلني لا أستكثر مبلغ يعتبر قليلا جدا على برنامج مراقبة جودة الأداء المهني لمكاتب المراجعة.
قال: تعتقد أن وزارة المالية ما تعرف عن حاجة الهيئة للدعم؟
قلت: الوزارة قدمت دعما للهيئة ولكنه لا يكفي لمواجهة متطلبات عملها، ولكنني متأكد من أن معالي وزير المالية لو علم عن أهمية برنامج مراقبة جودة الأداء المهني لمكاتب المراجعة لما تأخر في دعمها وهذا ما يأمله منه كل مستفيد من خدمات المراجعين القانونيين ومع الاكتتابات الأخيرة أصبح جميع المواطنين تقريبا من أهم المستفيدين، ولكن هل وصله الأمر أم لا؟ هذا هو السؤال، كما أنه لو علم أن الهيئة لا يوجد لها مقر رسمي لما تأخر.
قال: أنت واثق من أن وزارة المالية ستدعم الهيئة وبرامجها؟
قلت: نعم فوزارة المالية دعمت الهيئة الخليجية للمحاسبين القانونيين بمبالغ جيدة وتم التبرع لها بأرض ورصد ت مبلغا كبيرا لبناء مقر لها بالرغم من أنها لم تبدأ عملها بعد وتواجه صعوبات في اعتراف باقي الدول الخليجية بها أو لنقل اعتراف القطاعات المالية بالمعايير التي تسعى لتطبيقها في دول المجلس وهي بالمناسبة معايير قامت الهيئة السعودية بإعدادها وتطويرها، فما بالك أن تكون تلك الجهة سعودية ولها جهود يعرفها القاصي والداني ممن لهم علاقة بمهنة المحاسبة والمراجعة في كل مكان كما أنها منذ أكثر من خمسة عشر عاما وهي تزاول عملها في ملحق تابع لوزارة التجارة لا يفي بمتطلباتها.
نهض الطالب من مقعده وقال: الله يعين.