تأملات في مستوى الشفافية في المملكة

استعرضت في مقال الأسبوع الماضي, وضع الشفافية والفساد في الدول العربية, وما طرأ من تقدم أو تقهقر في هذا المجال من خلال تقرير منظمة الشفافية الدولية المنشور مؤخرا, الذي يستشف منه أن معظم الدول العربية كانت ولا تزال تراوح مكانها, إن لم تعد القهقري وتفقد مراكزها في مجال النزاهة والشفافية.
وحينما نلتفت إلى الوضع في المملكة الذي يتمحور حول المركز 70 من 163 بلدا, نجد أنه يراوح حول الوسط من ميزان التقييم, وأنه ليس أحسن حالا من بعض الدول العربية, وبالذات الدول الخليجية, كما أنه ليس أسوأ من البعض الآخر, بيد أنه لا يتناسب, بأي حال, مع المستوى المفترض أن تحققه المملكة في مجال مكافحة الفساد, وتحقيق القدر المأمول من الشفافية الذي تستحقه, والذي يتماشى مع سياسة الانفتاح الاقتصادي التي أخذت تنتهجها, ويرقى إلى مستوى الخطوات الإصلاحية التي دعا إليها ويعلنها باستمرار خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز. فليس معقولا ولا مقبولا أن يجعل الملك أول اهتماماته, حتى قبل أن يتسلم زمام القيادة, تحقيق ما عرف عنه من محاربة الفساد والتبذير والإسراف, وانتهاج سياسة الاعتدال في كل شيء. ورغم ذلك نرى السلطة التنفيذية والأجهزة الإدارية غير عابئة بذلك! بل نلمس من خلال أحاديث المجتمع في المجالس الخاصة كلاما وروايات غريبة عن انتشار الفساد, ولا سيما أخطر عنصر فيه, وهو الرشوة, في معظم الدوائر المسؤولة عن تقديم الخدمات للمواطنين, مثل التراخيص بصف عامة, تأشيرات الاستقدام, حتى وصلت إلى صهاريج الماء وحجوزات الطيران. وعندما تسأل من ينقل هذا الكلام: هل لديه استعداد لإثبات ما يقول حتى تستطيع مساعدته في الوصول إلى الجهة المختصة؟ يرد عليك بأن ما ذكره صحيح, ولكنه ليس مستعدا للمجازفة بعلاقته مع الجهة أو الموظف الذي يتحدث عنه لحاجته إليه مرة أخرى. وعندما تسأله: كيف يريد للأمور أن تصلح وهو يشكو من الفساد, وفي الوقت ذاته, يساعد على انتشاره؟ يجيبك بأنه مضطر لتمشية أموره, وأنه لم يجد أمامه غير هذا الطريق!
إن من يدفع الرشوة من أجل الحصول على حق من حقوقه فهو مخطئ في حق نفسه, إذ بإمكانه إذا ما تعرض إلى ضعط ما أن يكشف الأمر لمرجع الإدارة المعنية, أو يهدد من يمارس الضغط عليه بذلك, أما من يدفع عن قصد, من أجل الحصول على ما ليس حقا له, فهو مجرم في حق وطنه, وفي حق الغير الذي يسلبه هذا الحق, وأعظم إجراما منه الموظف الذي يطلب الرشوة لإعطاء حق الغير من لا يستحقه.
وبغض النظر عن مدى صحة كل ما يدور في المجالس أو بعضه, إلا أن الشائع في المجتمع بشكل ظاهر هو الحديث عن الواسطة إلى درجة أن معظم من يطلب الخدمة يبحث أولا عمن يتوسط له للحصول عليها, إما لتحاشي التعطيل أو لتحاشي الدفع! وإذا صح ذلك, فإن ما يقال من أحاديث عن وجود من يضطر إلى الدفع قد يكون أقرب إلى الواقع.
الباب الآخر الذي قد يأتي منه الفساد هو باب العقود والمنافسات الحكومية الذي كان مجالا خصبا لوقوع الفساد لاتساع المجالات والحلقات التي يمكن أن يتسلل منها الفساد, إذ لا يكفي أن تكون إجراءات المنافسة والتعاقد ووثائقها سليمة وكاملة ومكملة للحكم عليها بالنزاهة, فهناك مراحل أخرى كالتنفيذ والإشراف والتوريد وإعداد الشهادات والمستخلصات وتسليم المشاريع, يمكن أن يتخللها الفساد, وإلا فكيف يفسر ما يظهر من عيوب وتصدع وهبوط وانهيار لبعض الأعمال الإنشائية, ولما يمضي عليها بضع سنوات؟ أو ما يلحظ في المعدات والأجهزة من تلف بعد استخدامها بفترة قصيرة, أو من توريد معدات ناقصة أو بغير المواصفات المحددة لها, أو تسريب معلومات للمتنافسين عن عروض الغير من أجل مساعدتهم على الفوز بالمنافسة, وغير ذلك مما ذكرناه أو غيره من الأمور الخفية.
ومن واقع المعلومات التي اختزنتها بحكم ما اطلعت عليه من خلال عملي السابق, أستطيع القول إنه مع توطن ضعف النفوس, وازدياد الاستهانة بحرمة المال العام, فإن معظم المنافسات والمشتريات يعتريها شيء مما ذكرت.
ولعل النظام المعمول به حاليا, وهو نظام تأمين مشتريات الحكومة وتنفيذ مشاريعها وأعمالها الصادر قبل 30 عاما (صدر بتاريخ 7/4/1397هـ), ولا يزيد عدد مواده على 12 مادة, كان قاصرا عن تغطية جوانب كثيرة مما يفترض أن يحيط به مثل هذا النظام, ما جعله عرضة لاستفسارات وتفسيرات كثيرة, واجتهادات في التطبيق, بخاصة وقد صدر إبان فترة الطفرة الاقتصادية الأولى التي نفذ خلالها زخم هائل من مشاريع التنمية. وما من شك في أن قدم الأنظمة يجعلها متخلفة عن مسايرة التطور الذي يحدث في كثير من المجالات, ويشجع على حصول الفساد لوجود الثغرات التي يعجز النظام عن تغطيتها, وهذا ما أثبته البحث الذي جرى مؤخرا لحساب ديوان المراقبة العامة, ("الوطن" 4/11/1427هـ).
والمؤمل أن تتبدل الأمور في اتجاه التصحيح مع بدء تطبيق النظام الجديد للمنافسات والمشتريات الحكومية الذي صدر بالمرسوم الملكي رقم م/58 بتاريخ 4/9/1427هـ, ويسري مفعوله بعد أربعة أشهر من صدوره, ذلك أنه يتكون من 81 مادة, وهو ما يؤخذ مؤشرا على اشتماله على ما عجز النظام الحالي عن تغطيته, إضافة إلى التركيز فيه على التزام مفاهيم الشفافية والوضوح, وسد الثغرات, ومن ثم فإن من المتوقع أن يمثل نقلة نوعية نحو الاتجاه إلى المزيد من الشفافية ومحاربة الفساد وحماية المال العام, ويؤدي بالتالي إلى تحسين موقع المملكة في سجل الشفافية الدولي. والله من وراء القصد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي