تأملات في تقرير منظمة الشفافية
صدر منذ فترة غير بعيدة تقرير منظمة الشفافية الدولية عن مؤشر مفاهيم الفساد عام 2006، الذي شمل 163 دولة, واستند في تقييمه إلى انتشار الفساد بين المسؤولين في القطاع العام ورجال الإدارة والسياسة في كل دولة، من خلال إدارة أمور الدولة، ومستوى الانضباط في إدارة المال العام، وعقود المشاريع والتوريدات، وتستند هذه المنظمة، التي تتخذ من مدينة برلين مقرا لها، في تقييمها إلى المعلومات والتقارير والبيانات التي تحصل عليها بطريقتها الخاصة, وتلتزم الحياد والاستقلالية في أدائها لعملها.
واللافت للنظر في التقرير، الذي يعطي مؤشرا بمقياس صفر إلى عشرة، بحيث يدل انخفاض الرقم الذي تحصل عليه الدولة على مستوى الفساد فيها، أن معظم الدول العربية خاصة، والإسلامية والنامية عامة كانت ولا تزال تقبع في الزوايا المعتمة من التقرير، وتستكين في أماكن الظل منه، وإذا انتقل شيء منها من مكانه في سنة ما، فإنما إلى الأسفل أو قريبا منه، ونادرا ما يلحظ عليها الصعود في سلم التقييم، أليس النزول أسهل من الصعود؟
ولدى استعراض التقرير لا نجد سوى ثلاث دول عربية تحسن ترتيبها بعض الشيء، وإن كان تحسنا من الأسوأ إلى السيئ، إذ تحسن ترتيب لبنان من المركز 83 إلى 63، والجزائر من 97 إلى 84، وليبيا من 117 إلى 105، بيد أن أفضل دول عربية من حيث الترتيب هي الإمارات التي تقدمت على عمان بعد أن كانت الأخيرة تحتل المركز الأول عربيا، ولكنها تخلت عنه كما يتضح من ترتيب الدول العربية التي دخلت التقييم عالميا، الإمارات 31، قطر 32، البحرين 36، عمان 39، الأردن 40، الكويت 43، تونس 51، لبنان 63، مصر 70، السعودية 70، المغرب 79، الجزائر 84، سورية 93، ليبيا 105، اليمن 111، السودان 156، والعراق 160، أما فلسطين والصومال فلم يشملهما تقرير هذا العام لعدم كفاية التقارير والمعلومات المتوافرة عنهما.
وقد احتلت المقدمة كالعادة فنلندا بوصافة آيسلندا ونيوزلندا كأنزه الدول عالميا، وجاءت بعدها الدنمارك، السويد، وسنغافورة، وهذه الأخيرة يكفيها فخرا أنها تقود الدول الآسيوية من حيث النزاهة ومحاربة الفساد.
أما المؤخرة فقد حافظت عليها من دون منافس مجموعة الدول الإفريقية، حيث لم يبلغ تقييمها منتصف الميزان، وبالنسبة للدول الكبرى فقد أظهر التقرير أن مستوى الشفافية فيها ليس بالقدر الذي يتسق مع ما توحي به سياساتها الاقتصادية والإعلامية التي تتضمن دور المنافح عن النزاهة والحريات الاقتصادية ومحاربة الفساد في الدول الأخرى، حيث لم تحصل متزعمة العالم (أمريكا) على أكثر من الترتيب 20، فرنسا 18، اليابان 17، وألمانيا 16، بينما احتلت روسيا الترتيب 121 كواحدة من أسوأ الدول في مستوى الشفافية.
وبالتأمل فيما يوحي به هذا التقرير من مفارقات وانطباعات نخرج بالتعليقات الآتية:
إن الدول العربية لم تتقدم خطوة واحدة إلى الأمام في اتجاه الشفافية بغض النظر عن اختلاف المراكز أو تبادلها أحيانا، وذلك على الرغم مما يلحظ من انفتاح إعلامي، وتحسن في مستوى الوعي لدى بعض الشعوب العربية، من خلال ما ينشر من آراء في وسائل الإعلام، لكن يبدو أن محاربة الفساد تحتاج إلى أكثر من مجرد خواطر ينفّس بها بعض الكّتاب عن توهجاتهم.
يبدو أن ثمة ارتباطا وثيقا بين الفقر في الموارد المالية وبين الفساد كما هو الحال في الدول الإفريقية، وبعض الدول العربية، إذ إنه كلما كانت الموارد قليلة كانت هذه الموارد نهبا للمنتفعين وغيرهم من المستغلين، في حين يفترض المحافظة على هذه الموارد وحمايتها لمواجهة الإنفاق الضروري، وهو ما يفسر تأخر هذه الدول، بل تقهقرها على كل الأصعدة.
ـ إن الاستقرار السياسي، وترسخ مؤسسات المجتمع المدني هما عاملان رئيسان في مكافحة الفساد، إذ إن الاستقرار السياسي يدفع إلى ثبات الكيان المؤسسي وشيوع التنظيمات، أما مؤسسات المجتمع المدني فتقوم بدور الرقابة، ومساعدة الكيان السياسي على استتباب وحماية النظام العام، والملاحظ أنه كلما زادت استقلالية هذه المؤسسات قوي الدور الذي يمكن أن تؤديه في مجال الرقابة على مؤسسات الدولة.
لا غرو أن احتلت سنغافورة مركزا متقدما في التقييم، وجاءت على رأس الدول الآسيوية في النزاهة طالما كان رئيسها يتنقل في زياراته الرسمية للدول مع الركاب في رحلات عادية، وهو ما حصل أخيرا أثناء الزيارة التي قام بها لمصر، حيث فوجئت السلطات الرسمية بقدومه على رحلة عادية هو ووفده الرسمي، ضمن عموم المسافرين القادمين على تلك الرحلة، وليس في رحلة خاصة أو طائرة رئاسية، وقد ضرب الرئيس السنغافوري بذلك أروع الأمثلة في ترشيد الإنفاق الحكومي، والمحافظة على المال العام، ولكنه أحرج غيره من الزعماء في الدول الأخرى التي لا يتنقل الزعيم فيها بطائرة خاصة فحسب، بل الوزير ومن هو أدنى منه، فهل يوجد من يقتدي به، أم من يتندر عليه؟
الغريب أن هناك دولا كان الناس يظنون أنها تتمتع بقدر من الشفافية يلتقي مع ما تدعيه وسائل إعلامها من مشاركة فاعلة للجماهير في الحكم وإدارة شؤون الدولة، وإذ بهذا التقرير يكشف عن مجانبة الطوية لما تحمله النية في إشاعة حكم الجماهيرية، والمعنى واضح وليس في بطن الشاعر.
أما العراق فليس مدهشا أن تحتل المؤخرة في ميزان الفساد طالما أن الكل مشغول بالقتل عن مجرد التفكير في شيء اسمه الشفافية والنزاهة، اللتان أسهم المحتل في تغييبهما عن الأنظار بما يجري على يديه وبمباركته من قتل وتدمير، وإنه لمن المؤسف أن تنتهب ثروة هذا البلد الغني، ويعبث بها تحت حماية المحتل وشعبه يتضور جوعا، ومن لم يسقط منه بالقتل يسقط بالمرض.
أما السودان فمن المستغرب أن يحتل هذا المركز المتدني جدا في مؤشر النزاهة على فقر موارده، وما عُرف به معظم إخواننا السودانيون من أمانة ومسالمة وكره للإجرام، أم ترى أن التناحر والانشغال بالصراع على الكراسي يعطي اللصوص فرصة التسلل من تحتها في غياب الرقابة على المال العام؟