البنوك.. والاستثمارات الغاضبة
لقد كشف سوق الأسهم في أوجه وفي حضيضه من 20 ألف نقطة إلى ثمانية آلاف نقطة عن سلوك استثماري عام غالب في نوعه على غيره من السلوكيات، فقد بدا أن الناس لم تعد تفكر ولا تعول على أي مجال استثماري واحد، غير سوق الأسهم، رغم كل المرارات والخسائر الفادحة.. ورغم أن خطوات جموع السائرين في رمال السوق المتحركة تغوص أكثر كلما تقدمت أو تراجعت.
الآن وقد أدرك الكثيرون السأم والندم من حالة السوق، يبدو الأمر كما لو أنه لم يعد هناك من خيارات أو طرق أخرى للاستثمار أمام الأفراد المتطلعين إلى تحسين وضعهم من خلال مزاولة نشاط "ما" ليس لأنه لا يملك مالا فقط بل لأن آفاق الاستثمار ومجالاته أصبحت عنده غائمة، إن لم تكن غائبة!!
هذا مأزق نفسي ثقافي مضاد، بمعنى أن الأذهان أصابها عطب أو وهن ما، ثمة انسداد في الرؤية وعجز عن التفكير في إيجاد مخارج منقذة من خناق إغراء سوق الأسهم الذي ما زاد الكثير من المتعاملين معه إلا غما ونكدا.. لذا فإن دورا بات مطلوبا الآن أكثر من السابق وبشكل أشد إلحاحا.. وهو أن تبادر البنوك الوطنية أو الإقليمية أو الدولية التي لها فروع هنا لكي تقوم به فورا.. ففي دول العالم تنهض البنوك بدور اجتماعي اقتصادي كبير من خلال ابتكار وإعلان برامج للإرشاد للاستثمار المجدي تحت إشراف البنك ومختصيه، يرعونه خطوة بخطوة وفقا لقدرات كل شخص واهتماماته التي يتم دراستها وعقلنتها وتبصير الزبائن بها لدعمهم فيما يتفق وإمكاناتهم المادية وقدراتهم الذهنية والعلمية والعملية، بحيث يضمن فيها البنك حقوقه من الضياع ويحمي الزبون أو طالب الالتحاق بالبرنامج من التورط في قرض لا يقوى على سداده وتحقيق عوائد له من نشاطه.
تعمل بنوك الغرب كمدارس استشارية بروح غير انتهازية تقدم المشورة والخبرة والمعرفة تبعا لكل حالة، وفي الوقت نفسه تقدم له القروض الصغيرة أو المتوسطة التي تنشئ مشروعا قادرا على أن يصبح مصدرا اقتصاديا قابلا للنمو إلى جانب غيره من منشآت صغيرة تشكل في مجملها ثقلا نوعيا في اقتصاديات تلك الدول، وتضرب أمثلة باهرة على كيفية توجيه القوى والعقول البشرية إلى ما هو خير وأبقى من البحلقة والتنهد أمام شاشات السوق أو الغوص في بئر الكآبة مع كل ما يعنيه ذلك من أخاديد وندوب نفسية غائرة تضغط على أصحابها وقد تدفعهم إلى الجنون أو الجنوح.
ربما على بنوكنا أن تخوض هذه التجربة بضمان المشاريع نفسها بعد ضمان مصداقية وكفاءة وقدرة أصحابها، على أن تجنبهم مغبة إثقال ظهورهم بالنسب العالية للأرباح المركبة التي ما زال يكتوي بنارها كل من اضطر للاقتراض من بنوكنا.. وقد كانوا خلقاً كثراً.. خصوصا في فورة الأسهم قبل عامين.
صحيح أن بنك التسليف وأن بنك الاستثمار يطرحان ما يشبه هذا المنهج في العمل، لكنه منهج مازال في حاجة إلى التعريف الواسع به وفي الوقت نفسه التوسع في تقديم الخيارات عندها أمام الباحثين عن وسيلة للاستثمار، وعدم وقوف البنوك الأخرى متفرجة أسيرة أسلوبها التقليدي في الاقتناص السهل للربح المجزي ولا غير.
أكثر من هذا.. ربما على مراكز الدراسات والبحوث في الجامعات، وعلى جمعيات الاقتصاديين والمحاسبين والتمويل والإدارة، وعلى أهل القطاع الخاص أيضا أن يسهموا في إضاءة دروب الاستثمار المثمرة والجديدة والخلاقة والبسيطة وغير عالية التكلفة التي تسد احتياجات عامة كثيرة وتوفر فرص عمل وإنتاج وبالتالي تكوين بنية استثمارية خصبة نشطة ثرية متنوعة تجعل حديث سوق الأسهم في مكانه الصحيح وليس النشاط الشاطب الشافط المهلك للأموال والقدرات المعوقة لاقتصاد الوطن كما هو حاله في الوقت الراهن!!.