مدينة المليون بقالة والتجارة الحرة .. من ينقذ مدننا؟

[email protected]

هل فعلاَ نحن نسعى إلى التخطيط لكسر حاجز المليون بقالة في مدننا أو نعتقد أن ذلك قد يحتسب لنا سابقة تميز ننفرد بها عن مدن العالم؟ لقد أصبح ما بين كل بقالة وبقالة بقالة! وكلها متشابهة ومتماثلة تماماَ وتبيع النوع نفسه من العصائر والمشروبات الغازية الأغذية والحلويات والصحف. وأصابت عدوى انتشار هذه الظاهرة والنمط من النمو الأنشطة التجارية الأخرى مثل المطاعم والبوفيهات والمستوصفات والصيدليات وغيرها. وذلك جعل مدننا تتضخم وجعل طرقاتنا تزدحم لعدم توافر المواقف الكافية حول تلك الأنشطة في الوقت الذي نعاني فيه من سلبيات هذه الظاهرة التي لم يستفيد منها إلا في توظيف العمالة الأجنبية التي لم تجد عملاَ في بلدها. ومع إننا نؤمن بمبدأ التجارة الحرة إلا أن الحريات لابد أن يكون لها حدود وتنظيمات وإلا أصبح اسمها التجارة الفوضوية.
سلبيات تعدد وتكرار البقالات أو النوع نفسه من الأنشطة التجارية كثيرة وتتعدى إيجابياتها. فهي عوضاَ عن تشويهها المدينة وما تخلفه من نفايات فـهي تحتل مساحات لو جمعناها لأصبحت عشرات الملايين من الأمتار المربعة أي ما يقارب مساحة عدة أحياء من مساحة المدينة. وتقليص تلك المساحة سيساعد على تقليص حجم المدينة والمسافات التي نقطعها في مسارات الطرق والخدمات في المدينة. وهي أيضا تساعد على زيادة حجم العمالة الأجنبية داخل الأحياء وما يسببه ذلك من زيادة الجريمة والإرهاب. ناهيك عما تحتاج إليه تلك العمالة من مساحات للسكن والخدمات وهي مساحة أخرى يمكن التخلص منها في حجم المدينة. إضافة إلى أن تلك الظاهرة هي توظيف للأجانب وكأننا مسؤولون عن توظيفهم وحل مشاكل البطالة لتلك الدول في الوقت الذي لم نحل مشاكل بطالتنا وسعودة وظائفنا.
واقتصاديا فإن هذا التنافس وإن كان يساعد على خفض سعر البيع للمواطن ومساعدته على الكسل لقرب المحل منه إلا إنه لا يساعد على تطوير التجارة. وتنظيم مواقع تلك المحلات وفق مسافات تفصلها مبنية على دراسة لمواقع الكثافات السكانية والمستهلكين يساعد على ازدهارها وعلى حماية المستثمرين من المنافسة الفوضوية. ومثال على ذلك ما قامت به الأمانة من وضع مسافات قصوى بين مواقع محطات الوقود داخل المدن.
التنسيق مطلوب حيث إن هذه الظاهرة تشمل أنشطة مختلفة وكل منها يقع تحت مسؤولية جهات حكومية مختلفة مثل البلديات ووزارة التجارة والصحة والعمل. وهي جهات لا بد أن تتضافر فيما بينها للحد من نمو هذه الظاهرة ومحاولة إيجاد حلول لها. وهو تخصص معروف وله نظرياته وأسسه العلمية التي يتم على أساسها بناء قاعدة معلومات وأنظمة تطبيقية ونماذج حاسوبية تربط بنظام المعلومات الجغرافية GIS وGPS ومسارات وأطوال الطرق والأنظمة المساعدة لاتخاذ القرارات التخطيطية. وهو عادة يكون مبنياً على أساس دراسة لنوعية السكان وأعمارهم وأجناسهم بالتناسب مع أسرع وأقرب الخدمات سواء التجارية أو الخدمية. ولذلك يبقى اختيار مواقع هذه الأنشطة أهم عوامل تحديد كفاءة وضمان توزيع الخدمات بالتساوي بين السكان لضمان القرب وسرعة الوصول إلى هذه المراكز من السكان المجاورين. وتحقيق التوزيع المتكافئ والمتناسب مع السكان بصورة جيدة ومتزنة.
واختيار مواقع الخدمات يجب أن يتم على أساس تقليل المسافات التي يقطعها السكان إلى مناطق الخدمات. والدراسات السكانية قد تحدد مواقع الكثافات السكانية في المدينة لكل شريحة من الأعمار والدخل وتحاول أن توفر الخدمات المناسبة لها بحيث تكون في مناطق قريبة من تمركز مستخدميها. بدلاَ من ترك الأمر لمن يريد أن يفتح بقالة أو مستوصف أو صيدلية أن يختار أي موقع يشاءه ودون أي احترام للمجاورين أو توفير مواقف سيارات كافية تمنع من مزاحمة أبواب السكان. وهو أسلوب غير منظم حيث نرى أن هناك أكثر من نشاط في الحي الواحد بينما تفتقر الأحياء الأخرى إلى ذلك.
وهناك عاملان مهمان لاختيار أنسب المواقع:
* الأول: يهتم بتحديد مساحة أو نطاق وصول الخدمة وهو تحديد المسافة أو المساحة النموذجية التي يمكن تغطيتها بواسطة خدمة واحدة Service or Catchment Area وتوزيع الأنشطة والمراكز بالتناسب مع الكثافات السكانية وخصائصها الديموغرافية وبحيث لا يكون هناك تضارب واضح في المواقع. لضمان عدم تواجد أكثر من نشاط واحد لمنطقة أو حي واحد بينما تفتقر إلى ذلك المناطق الأخرى وبذلك نكون قد أحدثنا خللا في التوازن لتوزيع الخدمة على أكبر عدد من المجتمع.
* الثاني: يهتم بعملية تجميع وتوفير المصادر المالية والعلمية لبناء هذه المراكز Economic Efficiency ومحاولة تقليص المصاريف التشغيلية والإدارية الزائدة أو المهدرة لاحتياجات غير ضرورية وتسخيرها للحصول على مراكز أكثر وأقل تكلفة وبحيث يشمل نفعها الجميع. وتعمد معظم الدول إلى إنشاء مؤسسات لتشجيع نمو المنشآت الصغيرة وتوجيه رجال الأعمال المبتدئين إلى وسائل وطرق إدارة وتسويق النشاط. أو أن تكون هناك شركات كبرى تمتلك تلك الأنشطة وتقوم بتوزيعها على المدينة بطريقة متساوية ومدروسة لضمان نجاح تلك الأنشطة والذي بالتالي يساعد على نمو الاقتصاد الوطني.
وقد أشرت في مقالات سابقة إلى أن اختيار الموقع لتلك الأنشطة والخدمات وغيرها هو علم مهم وقائم بذاته وله نظرياته ويتم عقد مؤتمرات علمية سنوية ودورية لتطويره. وهو علم يقوم أساسا على عمليات أنظمة ونماذج حاسوبية Simulation Models وباستخدام نظريات الجاذبية والمسافات البينية وأقصر الطرق وعلاقتها بالمسافات التي يمكن توفيرها على الأغلبية من السكان. وأخيرا تم ربط هذه النظريات بنظام المعلومات الجغرافي GIS والذي يعطي أفضل الطرق لاختيار أنسب المواقع المثالية للخدمات والتي تلبي حاجة الجميع دون ضرر.
فمعظم هذه الخدمات يجب أن تكون لها ضوابط تنظيمية من حيث العدد والموقع. حتى ولو كان لدينا اقتصاد حر فإن الحرية في اختيار المواقع يجب أن تكون مدروسة ومنظمة بحيث لا تؤثر في المجتمع وهم سكان الحي والمارة من الناس. وكثرة البقالات في الشارع أو البلوك الواحد أصبحت مؤذية ومهدرة لأموال المواطنين وتؤدي إلي زيادة العمالة الوافدة ومشاكلها على المجتمع.
ومن منطلق الحرص على الوصول إلى حلول تخطيطية جيدة لتلك المشكلة, فإنني ما زلت أرى أن العودة إلى التخطيط الإسلامي للحي والاكتفاء بمركز خدمة صغير داخل الحي ووضع بقالة صغيرة ملحق بها خدمات أخرى مثل: حلاق, مخبز, ومغسلة تنظيف ملابس وجعلها في ساحة حول المسجد الجامع في وسط الحي وإعطائه احترامه بإقفال الشوارع المحيطة به والتعاون مع مصلحة البريد لوضع صناديق بريدية للسكان يقوم بإدارتها وصيانتها بعض المسنين أو المتقاعدين أو إشغال بعض المراهقين وفق مكافأة معقولة كتوفير فرص رزق لهم وتنشيطهم. مع الاهتمام بالتأثير البصري وتنسيق الحدائق.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي