أنا ظالم.. وأنت!
<a href="mailto:[email protected]">najeeb@sahara.com</a>
***
* "بيت حنون" مطرقة أخرى تدق في عقولنا، وفي لا وعينا، لنستيقظ من سباتنا العميق. وهنا أتساءل هل ما نرى وما نسمع وما نقرأ عن المذابح والدم الحار القاني لأهلنا في غزة وفي بيت حنون التي تشغفُ دماؤها في الطرقات والدروب والأزقة من فعل الوحشية التي لا تعيش إلا لكونها وحشا.. هل كل ذاك لا يؤلمنا؟ هل جف الإحساس في قلوبنا؟ أم صارت قلوبنا كتلا من الحجر الصلد الأصم عديم الإحساس؟ هل توحشنا ونأت وابتعدت أشاعيرُنا؟ هل جذبتنا أنانيتنا، وعيشـُنا اللحظة َوراء اللحظة إلى أماكن لا نعرف أين؟ هل جفت الدموعُ في مآقينا؟ هل تغيرت جلودُنا ففقدت نوابضَ الإحساس؟ ما الذي حدث؟ ما الذي يجعل الجرح نازفا حارا وقاتلا في بيت حنون.. وأفضلنا هو من يطيل النظر أكثر لأخبار بيت حنون قبل أن يضغط جهاز التحكم إلى قناة أخرى أقل همّاً ودما.. ما الذي تغير؟ أين راحت قلوبنا؟
***
* كان السؤالُ قويا وشاهرا أطرافه الحادة، ولابد أن نعثر على إجابة.. إن لم يكن من أجل الأطفال الذين تتعالى صرخاتهم المفجعة إلى السماء وهم يتهولون ألما، إن لم يكن من أجل ذلك الأب الذي شهق وعيُه الأخير حاضنا طفله النازف بين بديه تتساقط أطرافه، إن لم يكن من أجل الأمهات اللاتي فقدن الاتصال بالحياة، وأظهرن مقاطعَ حية لزوغان الألم، وصراخَ العجز، وشراسة قلة الحيلة، والدم يدورُ حامضا يحرق عروقهن.. وعيونهن تنظر إلى اللاشيء، فلاشيء يجيب، لا صدى، لا شيء. إن لم تجد أنت وأجد أنا الجوابَ من أجلهم، فلوجه الله من أجلنا.. من أجل أن نقيِّم وجودنا، ونبرر أنفسنا أمام أنفسنا.. فلا يعقل أننا لا نـتألم .. لا يعقل!
***
*الجواب الذي أصل إليه، ولا أدري إن كان جوابا، أو هروبا من تقريع اللحظة.. هو أننا بالفعل نتألم، وبالفعل نحترق.. ولكننا ندفن هذا الألم وهذا الهوان في أعمق أعماقنا ونحسب أننا نمضي في حياتنا.. لا خيار أمامنا إلا أن نفعل ذلك، وإلا زاغت عقولنا أمام ضعف الحيلة وقصر اليد. من قال قصر اليد؟ بل اليد مكبلة ومحكمة التقييد بحبال لا تلين، وهي حبال تأتي من كل مكان في الكون، حبال من إسرائيل وحبال من أمريكا والغرب، وحبال من المجتمع الدولي، وحبال العجز والانقياد من الأصدقاء والأشقاء.. لذا، بدافع غريزي ندفن الألم عميقا حتى لا نصله، وحتى لا يصلنا. إننا لمّا نضغط على جهاز التحكم بحثا عن قناة أخرى، فإنما نحفر عمقا آخر لندفن كل إحساس حتى لا يطل علينا من ظلام عميق وسحيق. ولكن.. هناك ثمن!
***
* الثمن، هو أننا ندفن آلامنا وجهازنا العصبي في أعمق الأعماق، ونستخدم مواد رادمة لتحجب ما دفناه، وهذه الروادم هي البحث عن الراحة والمتعة لعلنا نبعُدُ ميلا آخر عن تقريع الضمير وانتفاضة الأعصاب.. فيوما بعد يوم تقل إنسانيتنا لأن الإنسانية تحتاج وقودا يوميا من الإحساس الصافي. تجف يوما وراء يوما شجيرات داخلنا، شجيرات اسمها الكرامة، والتفرد، والوطن، والانتماء، الغيرة والشهامة.. وعندما تقوم هذه المعاني الكبرى بحمل عصاها وصرتها وتجمع أشتاتها وترحل عنا لنبقى أجسادا بلا أي مناعة نهبا لكل جرثومة على الأرض سواء جرثومة بحجم أمريكا وإسرائيل أو جرثومة تسري على الأرض منا وبيننا.. فنسقط من أول هجمة.. وتقتلنا أول عطسة.. هذا هو الثمن. ويعني هذا أن الضحية ليست بيت حنون، ولا أرواح الشهداء التي رفعها القمعُ القاهر إلى السماء، ولكن الضحايا نحن أيضا.. أو أننا ضحايا على الطريق.
***
* تبدو على الشاشة فتاة يانعة، برعمٌ المفترض أن تتحول زهرة، ولكن جمد التحولُ لتصير برعما جافا لا تسقيه المياه وإنما تغرفه الدموع، وتردد بتهجّدٍ يذيب الحديد:"بابا استُشهد، إخواني استشهدوا، كله ..كله أستُشهد.. أنا بقيت!". وكأنها تقول لماذا بقيت؟ أو أنها بقيت للعذاب شارعا بواباته الجهنمية لها بقية عمرها إن بقي لها عمر في الأصل. وترى طرقات المستشفى وأدواته ووسائله وهمم العاملين الساقطة على أرضيته وتعرف أن الجميعَ برسم الشهادة لقلة العلاج والممتهنين وحجم الحزن الثقيل الخانق.. تدرك أنهم لم يموتوا في الطريق، ولكن الموت ينتظرهم في المستشفى.
***
* ونرجع لمسألة الوحش يلـِغُ في الدماء، فالوحشُ الذي يعيش على الدم لا يمكن منطقا أزليا أن يعاهد على السلام. السلام هو السلاح الوحيد الذي يقضي على إسرائيل لأنها وحش يعيش على الدماء، لا يمكن لإسرائيل أن تقبل سلاما دائما، مستحيل، هي لا تعيش ولا تكبر ولا تستقطب العالم الغربي إلا بالحرب وإثارة الحرب.. لذا من يروّج السلامَ مع إسرائيل عليه أن يثبت لنا أولا، ومن شواهد التاريخ ووقائع الحاضر أنها ليست ذلك الوحش.
***
* عائلة :العثامنة" في "حي حمد" ببيت حنون، نامت تحت سقف أمان وهمي.. لم تستيقظ! أُبيدت بالكامل بقصف مدفعية يهودية. العثامنة رُحَّلوا شهداء جماعيا.
***
* فلتنتظر إسرائيل عودة "جيش الزهور" كما أسمتهم الكاتبة الأمريكية "باربارا فكتور".. الفدائيات اللاتي ينسفن أنفسهن وسط الحشود.. ميرفت مسعود ذات الثمانية عشر ربيعا.. زهرة تبشر بعودة جيش الزهور!
***
*"أعددتُ طعامَ الإفطار وجلستُ في انتظار عودتها من الجامعة. كانت صائمة، ولكن يبدو أنها فضلت أن تفطر في الجنة!" أم علاء، والدة الشهيدة ميرفت مسعود.
***
* هل ميرفت فرحة، هل أمها كذلك؟ الجواب: " فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألاّ خوف عليهم ولا هم يحزنون" صدق الله العظيم.
***
* تتلفت السيدة يمنة ويسرة وسط الأشلاء والدم والدخان ومشاهد الجحيم وتصرخ: "ظلمتنا إسرائيل، ظلمتنا أمريكا، ظلمنا العرب، ظلمنا المسلمون.." يعني أني واحد من الذين ظلموها، وأنت.. والبقية!