عوامل الفشل الداخلية للسياسة الأمريكية الخارجية

<a href="mailto:[email protected]">drashwan59@yahoo.com</a>

يوماً بعد آخر تتضح أبعاد المأزق الخطير الذي وقعت فيه الإدارة الأمريكية بمغامرة غزو العراق واحتلاله، بينما تتسارع وتتعقد الأبعاد الأكثر خطورة للكارثة التي حلت بهذا البلد وشعبه في مختلف مناطقه بسبب ذلك الاحتلال. والسؤال الكبير الذي لا يكف المحللون والمتخصصون وحتى عامة الناس عن طرحه في ظل ذلك المأزق وتلك الكارثة وبخاصة في بلداننا هو: كيف يغيب عن الدولة الأقوى والأكبر والأكثر تقدماً في العالم قبل قيامها بغزو العراق كل تلك النتائج السلبية التي وصلت إليها وأوصلته إليها؟ ويزداد إلحاح السؤال عند طائفتين متعارضتين من الناس وإن جمعهما منطق واحد جعل ذلك الإلحاح مؤرقاً لهما معاً، الأولى تضم هؤلاء المحبين للولايات المتحدة والولهين بنموذجها السياسي والاجتماعي والاقتصادي، الذين من فرط حبهم وولههم لا يصدقون أن تلك التداعيات والتوقعات قد غابت عنها منذ البداية. أما الطائفة الثانية فهي تشمل أولئك الكارهين للنموذج الأمريكي بكل أبعاده والرافضين لسياساتها تجاه بلداننا العربية والإسلامية، الذين من فرط كراهيتهم ورفضهم لا يصدقون أيضاً أنها لم تتمكن من توقع منذ البداية المأزق الذي وقعت فيه والكارثة التي أوصلت إليها العراق.
والحقيقة أن كلتا الطائفتين ينطلق من ذلك المنطق الواحد الذي، بغض النظر عن الحب أو الكراهية، يفترض أن الولايات المتحدة باتت تملك من مقومات القوة المادية والاقتصادية والعلمية ما يمكنها من التوقع الدقيق لكل الاحتمالات الممكنة لتطور أي حدث في العالم، وبخاصة تلك الأحداث التي تكون هي طرفاً فيها، وأن تلك المقومات تمكنها من التحكم في تلك الاحتمالات بما يضعف أو يلغي تماماً تلك التي تناقض مصالحها وسياساتها ويبقي فقط على تلك المواتية لها. ولا شك أن لهذا المنطق المشترك بين الطائفتين المتناقضتين له ما يبرره، فقد استطاعت الولايات المتحدة عبر تاريخها القصير بالقياس لأمم العالم الكبرى أن تراكم مقومات حقيقية للقوة بمعانيها المختلفة، كما استطاعت عبر استخدام تلك المقومات تجاوز كثير من الأزمات الداخلية والخارجية التي هددت مصالحها الحيوية وسياساتها الرئيسية. ومع ذلك فقد طالت السياسات الأمريكية الداخلية والخارجية في أوقات أخرى إخفاقات كبرى ترتب عليها تراجع كثير من مصالحها الحيوية وتهديد بعضها الآخر. ومع ذلك فتأمّل سجل النجاحات والإخفاقات الأمريكية الخارجية خلال الفترة التالية للحرب العالمية الثانية يوضح أمرين متناقضين: الأول هو أن تلك الفترة قد عرفت أقصى تلك النجاحات بانهيار الاتحاد السوفياتي السابق عام 1991 ومعه كل الكتلة الشرقية، ما وضع واشنطن ومعها المنظومة الرأسمالية الغربية على قمة العالم، والثاني هو أن الأعوام الثلاثة الماضية شهدت أكبر إخفاقات خارجية للسياسة الأمريكية في عديد من مناطق العالم ـ كما سبق أن أشرنا في مقال سابق ـ يقع الوضع في العراق على قمتها.
والسؤال الحقيقي الذي يجب طرحه اليوم هو: لماذا تراكمت الإخفاقات على السياسة الخارجية الأمريكية في عهد إدارتها الحالية وفي تلك السنوات بالتحديد؟ ولعل أول عناصر الإجابة يمكن في أحد أهم الأركان التي يرد كثير من المؤرخين والمحللين نجاح النموذج الأمريكي إليها، وهو غلبة النزعة العملية (البراجماتية) على السلوك الأمريكي الفردي والجماعي وليس النزعة الفكرية أو الأيديولوجية المغلقة. فما يبدو واضحاً في العراق وفي مناطق أخرى من العالم أن الإدارة الأمريكية تخلت عن تلك النزعة العملية وأحلت محلها ليس فقط نزوعاً أيديولوجياً مغلقاً بل توجهاً رسالياً تبشيرياً ذي طابع ديني أكثر منه سياسي قام بصياغته غلاة المحافظين الجدد الذي شكلوا غالبية قياداتها. هذا التوجه بطبيعته شديدة الانغلاق يبدو أنه هو الذي قاد تلك الإدارة إلى إغفال كافة قواعد المنطق العملي الذي ميز النموذج الأمريكي بما في ذلك السعي المسبق للتعرف الدقيق على الاحتمالات الواردة من جراء تحركاتها الخارجية التي أتي غزو العراق في مقدمتها. وعلى الرغم من وجود عديد من الأصوات في النخبة الأمريكية الأوسع التي حافظت على تلك الخاصية التقليدية أمريكياً وارتفعت محذرة من احتمالات الفشل في العراق، فقد غطى الهوى الأيديولوجي والرسالي على عقل الإدارة الأمريكية فاندفعت لتنفذ قرارها بغزو العراق وقبله أفغانستان وتطبيق سياساتها التدخلية في مناطق العالم الأخرى بدون أي حساب حقيقي لاحتمالات المكسب والخسارة، فهي لم تر فيها جميعاً سوى المكسب المؤكد.
كذلك فإن إجابة السؤال نفسه يمكن أن تكتمل أكثر عند ملاحظة غياب ركن آخر من أركان "النجاح" الأمريكي كما يراه المؤرخون والمحللون، وهو غلبة الروح النقدية في البلدان الغربية عموماً والولايات المتحدة خصوصاً، والتي تتيح مراجعة كافة الرؤى الفكرية والنظرية والسياسات والإجراءات العملية بصورة مستمرة مما يوفر لها آلية دائمة للتصحيح الذاتي. فمن الواضح من تتبع مجريات السياسة الأمريكية داخلياً وخارجياً خلال الأعوام الخمسة الأخيرة أن الإدارة الحالية بأركانها من المحافظين الجدد قد أطاحت تحت دعوى "الوطنية الأمريكية" و"الدفاع عن أمريكا" بتلك الروح النقدية تجاه سياستها الخارجية ووضعت من تمسكوا بها من أبناء النخبة الأمريكية ضمن معسكر "المشككين والمثبطين" للشعب الأمريكي في معركته الكبرى التي تخوضها الإدارة بالنيابة عنه للدفاع عن بلاده ومصالحها ونموذجها في مختلف مناطق العالم. ولا شك أن الحملات المكثفة الواسعة التي شنها المحافظون الجدد في الإدارة والإعلام والنخبة الأمريكية عموماً ضد كل من تجرأ على نقد توجهاتهم وسياساتهم في تلك المناطق وبخاصة العراق قد أطاح بما كان يمثل ميزة نسبية كبرى في النموذج الأمريكي، فلم تعد هناك من قدرة على التصحيح الذاتي السريع قبل وقوع الكارثة التي باتت اليوم واقعاً لا يمكن تجاهله في كل مناطق العالم التي اقتحمتها السياسة الأمريكية الإمبراطورية الجديدة وفي مقدمتها العراق.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي