Author

منزلة العقل في الفكر الديني/ الإسلام (استكمال البناء)

|
<p><a href="mailto:[email protected]">[email protected]</a></p> قائمة الفلاسفة الذين جادت بهم الحضارة الإسلامية في عصور ازدهارها قائمة طويلة. لذا سوف يقتصر حديثنا على أولئك الذين شكلت إسهاماتهم علامات فارقة في تاريخ الفلسفة العالمية وجمعت بينهم قضية التوفيق بين العقل والإيمان. الفارابي أول فيلسوف إسلامي حاول التوفيق بين الدين والفلسفة على أساس أن الدين حق والفلسفة حق وأن الحق لا يضاد الحق بل يؤيده ويشهد له، والعقيدة إذا استنارت بضوء الحكمة تمكنت من النفس وتوطدت دعائمها. وأول سؤال حاول البحث له عن إجابة هو: هل العالم قديم أم حادث؟ وقد حاول تفكيك هذه القضية إلى قضايا فرعية فبدأ بفصل الماهية essence عن الوجود existence ثم قسم الوجود إلى واجب الوجود وممكن الوجود. يمكنك مثلا أن تتخيل أي شيء يخطر على بالك لكن هذا لا يعني بالضرورة وجود ذلك الشيء لأن الوجود ليس من مستلزمات طبيعة الأشياء وإنما هو عرض يضاف إلى هويتها. بمعنى أن ذلك الشيء المتخيل في بالك ما هو إلا ماهية محضة أو مجرد إمكانية قد يتحقق وجودها وقد لا يتحقق، وهذا ما يسميه الفارابي الوجود الممكن. الماهية والوجود منفصلان في المخلوقات ولا يتحدان إلا في ذات الله، لذا فإن الله واجب الوجود. الوجود بالنسبة لله جزء لا يتجزأ من الماهية ولا يمكن تصور الله من دون وجوده. ممكن الوجود لا بد له من علة تتقدمه وتخرجه من مجرد إمكانية إلى حقيقة، أي أن وجوده واجب بغيره، مثلما أن وجود النور، الذي هو مجرد أمر ممكن في حال غياب الشمس، يصبح واجبا بشروق الشمس، أي أن الشمس هي العلة أو السبب في وجود النور. ولما كانت العلل لا يمكن أن تتسلسل إلى ما لا نهاية كان لا بد أن ننتهي إلى موجود واجب الوجود وجوده واجب بذاته لا بغيره. واجب الوجود يستحيل تصور عدم وجوده، ذلكم هو الله الذي لا علة لوجوده إلا ذاته وهو العلة الأولى التي تمنح الوجود لسائر الموجودات في هذا العالم. التفريق بين ممكن الوجود وواجب الوجود يجعل من الله علة أولى تفيض الهوية على ماهية الأشياء. يقول الفارابي إن الله عقل وعاقل ومعقول. علمه تعالى لذاته يستتبعه علمه بغيره. تعقّله لذاته تعقل لسائر الموجودات لأنها إنما تلقت نعمة وجودها أصلا منه تعالى. وعلم الله هو قدرته. يكفي أن يعلم الشيء ليتحقق علمه في الوجود. فعلم الله المحيط بكل شيء هو علة كل موجود وهو القوة التي تخلق كل شيء، إذ يكفي أن يكون الشيء معلوما لله لكي يتحقق وجوده. فعلم الله القديم هو في ذات الوقت نشاط خلاق. فالأشياء بعلم الله لها تصبح هويات ماثلة الوجود بعد أن كانت مجرد ماهيات ممكنة الوجود. الخلق، تبعا لذلك، ما هو إلا فيض الوجود من واجب الوجود إلى ماهيات ممكنة الوجود لتصبح بذلك حقيقية. وحيث إن علم الله أزلي يحيط بكل شيء ولا يعزب عنه مثقال ذرة فإن وجود العالم ليس متأخرا من حيث الزمان عن موجده، فالمعلول يوجد بوجود علته ولا يتأخر عنها، فالنور يسطع حالما تطلع الشمس وظلك يتحرك معك حالما تتحرك. ولا يجوز أن يكون الله متأخرا عن العالم بالزمان لأنه لو وُجد الله ثم وُجد العالم لكان بين الوجودين زمان فيه عدم وإذا كان فيه وقت لم يكن الله محدثا للعالم ثم أعقبه وقت آخر أصبح فيه العالم محدثا فكيف نعلل هذا الحدوث؟! فالتلازم الزماني ضروري بحيث لا ينقضي زمان بين وجود العلة ووجود المعلول، لكن العلة تتقدم على المعلول منطقيا ومن حيث الرتبة والشرف، فالمعلول دائما أقل رتبة من علته. وهكذا فإن الله والكون متلازمان من حيث الزمان لكن الله يتقدم على الكون بالذات. وهكذا يصبح الله عند الفارابي علة فاعلة خلاقة تمنح الماهيات وجودها بعد أن كان عند أرسطو مجرد علة غائية تحرك الكون بواسطة تعشّق موجودات الكون لها. بعد ذلك يأتي ابن سيناء ليزيد في كلام الفارابي تفصيلا بقصد إثبات أن الله أحدث العالم، خلافا لما يقوله الفلاسفة. يفرق ابن سينا، كأستاذه الفارابي، بين القديم بحسب الذات والزمان معا والقديم بحسب الذات فقط. القديم بحسب الزمان هو الذي لا أول لزمانه، والقديم بحسب الذات هو من ليس لذاته علة خارجية توجدها. فالعالم قديم بالزمان لكنه حادث بالذات، بمعنى أن هناك علة لحدوثه ولولاها لم يحدث. علة وجود العالم هو الله الذي أوجب وجوده بالفعل بعد أن كان مجرد إمكانية، أو كما يقول: إن الله أضاف وجود العالم إلى ماهيته فأبرزه إلى الوجود بالفعل بعد أن كان بالقوة. وعلى هذا الأساس فإن العالم متأخر عن علته شرفا ورتبة وإن كان مساوقا لها في الزمان. وهكذا فإن ابن سينا وفق بين الفلسفة والدين بأن بين قدم العالم قدما زمانيا كما يقول الفلاسفة وحدوثه من خالق كما يقول الدين. ويتحدث ابن سيناء عن علم الله فيقول إنه بالرغم من أن علم الله علم كلي إلا أنه لا تخفى عنه الجزئيات. لكن الله لا يعلم الجزئيات المتغيرة عند وقوعها في آناتها وأزمنتها وإلا لكان علمه حادث معها ومتغير بتغيرها، والتغير على الله محال، إن علم الله بالجزئيات علم قديم سابق على الجزئيات ويأتي عن طريق علمه بالمبادئ الكلية التي تسير كل ما في هذا الكون. فهو يعلم ارتباط الأسباب بالمسببات التي تؤدي إلى حدوث أحداث الكون من حيث إن هذه الأحداث خاضعة للقوانين الكونية العامة، وهذا ما يكفي لينفي جهل الله بحدوث الأشياء قبل وقوعها ويدرك جميع الجزئيات المتغيرة دون أن تتغير ذاته. كما أن الله لا يعقل الأشياء من الأشياء ذاتها وإلا لكان علمه بها معلولا لها. إنه يعلم الأشياء بحكم أن تعقله لها هو علة وجودها. وبعد ابن سيناء جاء الغزالي الذي كتب كتابه "مقاصد الفلاسفة" لخص فيه زبدة ما توصلت إليه الفلسفة في عصره من آراء ونظريات. وقد أصبح كتابه هذا مرجعا مهما من مراجع الفلسفة في الشرق والغرب لعدة قرون. ثم بعد ذلك أعلن هجومه على الفلسفة في كتابه "تهافت الفلاسفة" الذي قصد منه أن يبين عجز الفلسفة والتفكير العقلي عن الوصول إلى آراء يقينية في مسائل ما بعد الطبيعة، ودليله على ذلك أن الفلاسفة قد يتفقون في المسائل الطبيعية والرياضيات لكن حينما يبحثون المسائل الإلهية تجد أن لكل منهم رأيا يناقض آراء الآخرين مما يدل على ضعف براهينهم. فلو كان العقل هو السبيل إلى معرفة هذه المسائل لما حصل هذا التناقض. فالعقل لا يهتدي إلا بالشرع لكن الشرع لا يتبين إلا بالعقل، فالعقل أس والشرع بناء، ولا يغني أس ما لم يكن بناء ولا يثبت بناء ما لم يكن أس. فالغزالي يؤكد ضرورة استخدام العقل في مجال الشرع لكنه يضع له حدودا ولا يقدمه على الشرع كالمعتزلة. ونظرا للصلة الوثيقة بين العقل والسببية عمد الغزالي إلى نفي مبدأ السببية. يقول الغزالي إن الفلاسفة يبنون حججهم على تلازم الأسباب والمسببات. لكن ما نسميه سببية يرتد عند التحليل إلى علاقة زمنية بين شيئين متعاقبين أحدهما يحدث قبل الآخر. لكن ليس لدينا أساس نستند إليه وندعم به القول إن السابق علة واللاحق معلول. ما نشاهده من اقتران بين الأسباب والمسببات ليس اقتران تلازم ضروري, إنما هو مجرد شيء اعتدنا عليه وألفناه بحكم توالي الحوادث وتعاقبها. فبالإمكان، من الناحية المنطقية، أن تلتقي النار بالبنزين دون أن يحدث احتراق وبالإمكان خلق الشبع دون الأكل والري دون الماء. وليس من المستحيل أن تكون قوانين الكون كلها على غير ما هي عليه، فحصول الأشياء على نحو معين لا ينفي، ولو في الذهن، حصولها على نحو مغاير، إذ إن جميع الأمور تحدث بإرادة الله لها لا بالعلل الظاهرة لنا. وقصد الغزالي من ذلك أن يثبت إمكانية حدوث المعجزات التي أتى بها الأنبياء رغم أنها تخالف قوانين الطبيعة ونواميس الكون. وعلى الرغم مما يبدو على موقف الغزالي تجاه السببية من غرابة إلا أنه هو الموقف نفسه الذي سيتخذه لاحقا الفيلسوف الإنجليزي ديفيد هيوم. وجاء ابن رشد ليدفع عن الفلسفة ما ألصقه بها الغزالي من تهم فكتب كتابه "تهافت التهافت" الذي تلاه بكتابه "فصل المقال" اللذين اعتذر فيهما عن الغزالي بأنه ربما كان مدفوعا إلى أقواله عن الفلسفة مداهنة للسلطتين الزمنية والدينية. ومما سهل مهمة ابن رشد التوفيقية عدم وجود سلطة لاهوتية في الإسلام تحتكر حق تفسير النصوص والفصل في الخلافات العقائدية، إضافة إلى التفريق القرآني بين الآيات المحكمات والآيات المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلا الراسخون في العلم الذين هم الفلاسفة. ترتكز فلسفة ابن رشد على مبدأ التفريق بين عالم الغيب وعالم الشهادة. ويهدف من ذلك إلى إثبات أن صفات الله مغايرة للصفات الإنسانية ولا تشترك معها إلا بالاسم فقط، ولذلك لا يجوز لنا تطبيق المعاني الإنسانية على الأمور الإلهية، كما فعل الأشاعرة والغزالي وغيرهم. ولإزالة الخلط الذي يقع فيه الإنسان حينما يطبّق على عالم الغيب ما يعرفه عن عالم الشهادة المحسوس لا بد له من اللجوء للعقل والبحث القائم على البراهين التي بها نتوصل إلى اليقين. يمثل ابن رشد ذروة الإنجاز الفلسفي عند المسلمين ويصفه برتراند رسل بأنه خاتمة الفلسفة عند العرب وبداياتها في أوروبا في القرن الثاني عشر حينما بدأ الاتصال بين الشرق والغرب وانتشرت مؤلفات علماء المسلمين وفلاسفتهم بعد ترجمتها إلى اللاتينية. وقد أحدثت هذا الترجمات نشاطا فكريا غير مسبوق في الجامعات الأوروبية التي كانت قد بدأت تنفصل عن سلطة الأسقفيات لتستقل بإدارتها ومناهجها العلمية. وبفضل ما وقع في يد توما الأكويني من مواءمات ابن رشد الموفقة بين العقل والإيمان ومن شروحاته الدقيقة وترجماته المعتمدة لكتب أرسطو قاد الأكويني ثورة ضد الأفلاطونية المسيحية التي روج لها القديس أوغسطين مؤسس الفلسفة المدرسية التي ظلت جاثمة على صدر الفكر الأوروبي بلا منازع طوال العصور الوسطى.
إنشرها