في ذكرى الوحدة.. كيف يكون الوفاء الحقيقي؟

<a href="mailto:[email protected]">mdukair@yahoo.com</a>

ما هو الوفاء الذي يمكن أن نحفظه للرجل العظيم الذي وحد هذه البلاد في وقت كانت فيه أطراف هذه البلاد متفرقة ومتناحرة، ينتشر فيها التخلف وتفتقد الأمن وتشتد حاجتها لأسس ومقومات الحضارة المعاصرة التي بلغتها البشرية في أوائل القرن العشرين؟
إن أعظم وفاء يمكن أن نحفظه ونقدمه في ذكرى هذا الإنجاز الكبير الذي نجح فيه الملك عبد العزيز، هو أن نسير على الطريق الذي يزيد من قوة هذا الإنجاز وصلابته ويعمل على بقائه وتماسكه. هذا هو الوفاء الحقيقي وهذا هو الاحتفال الصحيح بذكرى هذا المشروع الوحدوي لهذا الكيان الكبير الذي كافح هذا البطل من أجله كفاحا مريرا ليراه قويا سامقا موحدا منطلقا نحو العزة والكرامة التي تليق بالموحدين الذين شرفهم المولى عز وجل بحمل لواء خدمة دينه الذي ارتضاه لهم. إن الوفاء لصاحب هذا الإنجاز يستدعي أن نحافظ ونعض بالنواجذ على أقوى وأنجح وحدة عرفها العرب في تاريخهم الحديث. وإن المحافظة على كل ذلك يكون باستلهام المبادئ الكبرى التي أدركها حس الملك عبد العزيز، ورسخها ليقوم عليه هذا البناء.. المبادئ التي عرف أن عليها تقوم الحواضر وبها تزدهر الدول وتبقى.

أدرك الملك عبد العزيز أن العرب يخضعون للعقيدة ويساسون بها، وهذا ما أشار إليه ابن خلدون في مقدمته الشهيرة. فللعرب عامة وأهل هذه الأرض خاصة، مهمة عظيمة شرفهم المولى عز وجل بها. إنها مهمة وشرف حماية حوزة الدين وصيانة عرى العقيدة التي ارتضاها سبحانه وتعالى للناس. وقد عرف الملك عبد العزيز أن القيام بهذه المهمة السامقة يستدعي اقتران القول بالعمل الصادق المخلص الدؤوب. وأن هذه البلاد باعتبارها حامية وخادمة للحرمين الشريفين، يفرض عليها دور قيادي بين بقية بلاد العرب والمسلمين. وأن هذا الدور يتطلب أن تنتهج الدولة خطابا إسلاميا يفهمه ويقبله عامة المسلمين. ومن فضل الله أن كان هذا الخطاب يتخذ من العقيدة الصافية التي كان عليها خير البشر عليه الصلاة والسلام وصحابته رضوان الله عليهم مرتكزا له. أما فروع هذه العقيدة فهي مما لا يوجب خلافا بين أهل الملة الصحيحة.
جاء الملك عبد العزيز من سلالة خبرت أصول الحكم لمدة تزيد على ثلاثة قرون. فعرف أن العدل كان وسيظل أساس الملك القويم، وأن الملك لا يدوم عند ضياع العدل بين الرعية، طال الزمان أم قصر. فجعل العدل نبراسا لدولته، وعمل بكل ما أوتي من عزيمة على قيامه بينه وبين الناس.فالعدل سنة من سنن الله وناموس من نواميسه تعالى في الكون، والسموات والأرض قامتا على العدل، وشيخ الإسلام ابن تيمية يقول أن الله عز وجل يقيم الدولة الكافرة بالعدل ويزيل الدولة المؤمنة بالظلم.
ثم أدرك الملك عبد العزيز أن سلامة البلاد تتحقق من خلال سلامة بنائها الداخلي. فعمل على تثبيت أركان الأمن الذي كان مفقودا. وعلم أن تحقيق هذه الأهداف يستلزم الأخذ بأسباب القوة المدنية و دواعي المنعة العسكرية. وهي الأسباب والدواعي التي ستضمن لهذه البلاد سيادتها واستقرارها. لذلك وجدناه عندما أفاض الله تعالى علي هذه البلاد بثروة النفط، قد عقد العزم وعمل على تسخيرها في بناء قوة ذاتية للبلاد لتثبيت أركان الدولة الوليدة محليا وعالميا. وقد نجح في هذه المهمة الصعبة نجاحا باهرا، على أرض كانت تفتقد كثيرا من مقومات الحياة العصرية، وتنوء بتحديات جسيمة ليس أقلها التفرق والتشرذم والتخلف وفقدان الأمن وتعدد الإمارات والرئاسات القبلية والعصبيات المحلية. استطاع أن يتخطى هذه التحديات بإمكانات بسيطة، لكن بعزيمة ماضية وإرادة صلبة. استطاع أن يحقق هذا النجاح في وقت كان العالم فيه يموج في أتون حربين عالميتين طاحنتين.
لقد كان أحد أهم أسباب نجاح مشروع الملك عبد العزيز الوحدوي أنه كان مشروعا معبرا عن إرادة الأمة وخياراتها. وقد دله ذكاؤه المشهود أن قوة هذا المشروع ستتوقف على مقدار ما سيبرهن أنه مشروع إسلامي ينطلق من الأمة وينتهي إليها، راعيا لأحلامها ومعبرا عن طموحاتها وملبيا رغباتها. لأنه استوعب أسباب انهيار الممالك، ورأى بعينه ما انتهت إليه أحوال الدولة العثمانية بنزوعها نحو الاستبداد الذي أدى إلى انفصام كيان الدولة عن إرادة الأمة ومؤسسات المجتمع المدني. وراقب كيف تكالبت هذه العوامل مع التربص والكيد الاستعماري المقبل من الغرب، في تفريق الأمة وإنهاكها، مما أفضى إلى التدخل في شؤونها ثم استعمارها ونهب مواردها وتعطيل طاقاتها. وعلى الرغم من البيئة البسيطة التي خرج منها الملك عبد العزيز، إلا أنه برهن على حنكة سياسية ودهاء واقعي (براغماتي)، استطاع من خلاله أن يتجاوز مشروع المستعمرين الذين انتهت بهم نتائج الحربين العالميتين في القرن العشرين إلى أن تكون لهم اليد الطولى في تسيير العلاقات الدولية، وأن يحقق حلمه الوحدوي بحيث لا تقف تلك المطامع الاستعمارية في طريقه.
وقد دله حسه وخبرته بشؤون الحكم إلى أن محن العرب العظمى وأزماتهم الكبرى، كانت تبدأ حينما تنحرف الدولة بسلطانها وآلياتها فتلغى دور الأمة وتتجاهل رغباتها وآمالها وتعلي من الشأن الخارجي على حساب الشأن الداخلي، فتتصادم مع مؤسسات المجتمع وتنفصل عنه. ومن يراجع التاريخ يجد أن الأمجاد كانت دوما تتحقق عندما تتحد إرادة الحاكم مع إرادة الأمة، وأن الإخفاقات تبدأ عندما تتوتر العلاقة بينهما، ويصبح مشروع الدولة – بشكل أو بآخر- منفصلا عن مشروع الأمة المستمد من عقيدتها.
يقول الكاتب السعودي الأستاذ محمد محفوظ في بحث له على أحد المواقع الإلكترونية: "إن اختلاف المسلمين التاريخي لم يكن حول الأمة ودورها التاريخي والحضاري، ولا حول ضرورة الدولة وأهميتها، وإنما حول عملية إنشائها، وطريقة ممارستها لأدوارها في الأمة على الصعيد الداخلي والخارجي، ومن أين تستمد شرعيتها وسلطتها. فالإطار المرجعي لكل المسلمين مع اختلافاتهم وتباين وجهات نظرهم بعد انتقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى لم يكن الدولة وإنما الأمة.
ولقد كان لقيم الإخوة والمساواة والتعاون والتكافل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومؤسسات العلم والمعرفة والخير، وجهاد وجهود الفقهاء والعلماء والمصلحين دور مركزي في تثبيت مرجعية الأمة، وأنها صاحبة الصوت الأعلى في التجربة التاريخية الإسلامية. ومن خلال هذه القيم والمؤسسات كانت الأمة تؤكد ذاتها، وتعمل على تنفيذ مشروعها الحضاري، وتحصين كيانها في مواجهة أخطار الدولة المنحرفة المستبدة، والأخطار المقبلة إلى الأمة من الخارج ".
قال تعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} (آل عمران: 110).
إن قدر العرب هو أن نجاحهم مرهون بتطابق مشروع الدولة مع مشروع الأمة المستمد من صميم عقيدتها الإسلامية، وفشلهم متحقق متى ما كانوا خارج هذا الإطار.
ما أكثر المدعين حب عبد العزيز آل سعود، وأقل الأوفياء الحقيقيين لإنجازه التاريخي!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي