جامعة الملك عبد الله، وصندوق الأجيال
<a href="mailto:[email protected]">mohbakr@alum.mit.edu</a>
لاشك أن قرار خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود بإنشاء جامعة للعلوم والتقنية على ساحل البحر الأحمر وفق معايير منافسة على المستوى العالمي يُعد خطوة رئيسة في برنامج الاستثمار لمستقبل المملكة تأتي متناغمة في التوقيت والمضمون مع برنامج الابتعاث للخارج والتوسع الكبير في تأسيس جامعات وكليات في مناطق متعددة من الوطن. إذ من المؤمل أن تصبح تلك الجامعة حاضنة للمبدعين سواء من المبتعثين أو خريجي الجامعات السعودية بعد إكمال دراساتهم العليا في مجالات تستحق المزيد من البحث العلمي أو التطوير التقني.
إن الخيار الاستراتيجي الواضح أمام المملكة لبناء تنمية مستدامة للأجيال القادمة لابد أن يرتكز على الاستثمار بشكل مكثف في مصدر جديد من مصادر الثروة ألا وهو المعرفة Knowledge. ذلك أن المصادر الأخرى للثروات الطبيعية التي حبا بها الله تعالى المملكة من نفط أو معادن ستنضب يوماً ما مهما طال بها الزمن. ولنأخذ على سبيل المثال احتياطيات النفط العالمية حيث من المتوقع أن تنفد بعد نحو 140 عاماً فقط بمعدل الاستهلاك الحالي كما ورد على لسان رئيس شركة أرامكو السعودية عبد الله صالح جمعة في محاضرته التي ألقاها الأسبوع الماضي في فيينا ( الاقتصادية 14/9/2006م) ، وبالرغم من أنه رقم متفائل ، تبقى تلك السنوات فترة قصيرة في عمر الشعوب ، وللمقارنة علينا أن نتذكر عدد السنين التي انقضت منذ اكتشاف النفط بكميات تجارية في المملكة في عام 1938م !
إن بناء ثروة من المعرفة المميزة يتطلب إلى جانب المال والإدارة الماهرة وقتاً طويلاً لا يقاس بالسنين بل بالعقود وربما الأجيال، فمؤسسات التعليم العالي الراقية في الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها ترتكز على إرث متراكم من الدراسات، الأبحاث، والسلوكيات تبلورت عبر قرون من الزمن ما يحتم ضرورة المسارعة في إنشاء الجامعة التي أعلن عنها خادم الحرمين الشريفين. ولعل من حسن حظ المملكة أن تأتي هذه المبادرة في ظروف مالية جيدة وإرادة سياسية واعية بالخيارات المتاحة والتكلفة المادية والاجتماعية لكل منها.
إن التكلفة الباهظة لمؤسسات التعليم العالي تشكل عقبة كبيرة أمام الكثير من الدول ما يجهض عادة رسالة تلك المؤسسات ويحيلها إلى فصول دراسية باهتة تكرس تدهور المجتمع وتزيد بؤسه. لذا أصبح اليوم من أهم المشاغل لرؤساء الجامعات في العالم البحث عن مصادر تمويل خارج إطار المصادر التقليدية كتلك التي ترصدها الحكومة في ميزانيتها أو ما تدره الرسوم الدراسية. إذ إن الرسوم مهما تعاظمت تظل قاصرة عن تغطية المبالغ التي تُصرف على هذه المؤسسات. ففي الجامعات الخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية التي تتقاضى رسوماً دراسية عالية نسبياً، لا يغطي هذا المصدر من الدخل أكثر من 25 في المائة مما ينفق على الطالب الواحد بالرغم من أن الرسوم الدراسية قد تصل في بعض هذه الجامعات إلى 50 ألف دولار سنوياً. كما أن ما تحصل عليه هذه الجامعات من الحكومة وبعض الشركات لدعم البحث العلمي، بالرغم من سخائه، لا يكفي لسد العجز في ميزانيتها. لنأخذ على سبيل المثال جامعة (إم. آي. تي MIT) التي تبلغ ميزانيتها السنوية نحو مليارين من الدولارات يُنفق أكثر من نصفها على مختبرات البحث العلمي. هذه الجامعة الخاصة، وهي كغيرها من الجامعات الأمريكية الأخرى التي لا تسعى إلى الربح Non-profit Organization، تضم في رحابها نحو عشرة آلاف طالب معظمهم يحصل على مساعدة مادية من الجامعة بشكل أو بآخر، بينما لا تمثل حصيلة ما تغطيه الرسوم الدراسية سوى 10 في المائة فقط من إجمالي المصروفات.
ولذا أصبحت الأوقاف في تلك الجامعات تُشكل مصدراً رئيساً لمواردها المالية، ومن أشهر الأمثلة على ذلك جامعة هارفارد التي تبلغ قيمة محفظتها الوقفية نحو 25 مليار دولار تحقق منها ريعاً سنوياً يصل إلى 30 في المائة تقريباً ما يضعها في المرتبة الأولى بين الجامعات في العالم في هذا المضمار. وبالطبع لا يقتصر نادي الجامعات الغنية على هارفارد وحدها بل هناك كوكبة من الجامعات الأخرى تزيد ثروة كل منها على عشرة مليارات دولار .
جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية أمامها فرصة جيدة للحصول على موارد مالية سخية ومستقرة دون الحاجة إلى الاعتماد على الميزانية العامة للدولة أو المعاناة من الروتين والتقلبات في الاعتمادات، إذ يمكن تخصيص حصة صغيرة نسبياً من محفظة صندوق الاستثمارات العامة (صندوق الأجيال) كوقف ينفق من ريعه على إنشاء الجامعة وتشغيلها مستقبلاً. بالطبع ستحدد الدراسات التفصيلية الحجم الملائم للوقف، غير أن استقراء ومشاهدة بعض النماذج الناجحة في الولايات المتحدة الأمريكية تقودنا إلى تقدير ما قد تحتاج إليه الجامعة من وقف لا يزيد على نسبة 2 في المائة من حصص صندوق الاستثمارات العامة في أسهم الشركات المدرجة للتداول في السوق السعودية أي ما يعادل مبلغ 15 مليار ريال فقط وفقاً لمعدل الأسعار السائدة في الوقت الراهن وسيدر مثل ذلك الوقف ريعاً للجامعة يقارب المليار ريال سنوياً بإذن الله. وإذا أُقر مثل هذا التوجه، فإن الخطوة التالية هي سلخ تلك الحصة من محفظة الصندوق وإسناد مسؤولية إدارتها إلى مجلس أمناء الجامعة لتعزيز استقلاليتها ومرونتها في أداء رسالتها ورسم خططها.
إن نجاح جامعة الملك عبد الله سيقدم نموذجاً يمكن محاكاته في بعض من جامعات المملكة الأخرى القائمة حالياً أو تلك التي ستنشأ مستقبلاً، كما أن وقف جزء من حصص الدولة في الشركات المساهمة للإنفاق على الجامعة سيحفز الآخرين من مؤسسات وأفراد موسرين للاقتداء بتلك الخطوة ووقف جزء من أسهمهم أيضاً في السوق لصالح برامج مماثلة كل على قدر سعته.