"انخفاض الدولار" يدفع بالسيولة للمضاربة في سوق الأسهم الخشاش

سعدت جدا أن يكون مقالي السابق عن توقع انهيار الدولار عام 2006، رد فعل لمقال لمعلمي الشيخ وهيب بن زقر، تناول فيه جانباً من الآراء التي طرحتها، مفندها تارة ومجادلاً لها تارة أخرى، وإن كنت محاميا أحسن الترافع، إلا أنني تلميذ أمام الخبرة المصرفية لوهيب الرهيب.
ولكن سوف أستمر في الدفاع والمرافعة وأستثمر مقالكم إعلامياً لتحويله إلى قضية رأي عام، فطالما كنت أسعى دائما في كل مناسبة أرى فيها الشيخ وهيب، بأن اختلق حواراً جانبياً معه، محاولا استفزاز مركز المعلومات المتنقل الذي يمتلكه في (رأسه)، لأنه يتفاعل خلال دقائق ويربط الماضي بالمستقبل بتحليل ورؤية مرتبطة وموثقة بدلائل وبراهين! وكثيراً ما نجحت في ذلك، متخذاً أسلوب أسئلة الشباب الجدلية ما بين الاقتصاد والسياسة والاجتماع دفعة واحدة، والحقيقة كنت أعرف هدفي تماماً وأعد مسبقاً ما أنوي مناقشته فيه، راغبا في التحليل والطرح والمنطق، ليقيني أن هذا الشخصية الاقتصادية عاصرت وعاركت أحداثا محلية ودولية تنفع بأن تكون رسالة دكتوراة عنوانها "علمتني الحياة".
وقبل أن أعاود الحديث مجدداً عن وجهة نظري وتحليلي السابق، لعلي أجدها فرصة مناسبة لأن أؤكد لمعلمي الشيخ وهيب بن زقر، أن أبناء الجيل الحالي من رجال الأعمال، يعون تماما مقولة "حسن السوق ولا حسن البضاعة" إلا أن إصرار تمسك جيل الرواد بـ "الدولار"، أصبح أقرب إلى كونه عاملا نفسيا متجذراً، وهو يذكرني بتمسك جدي مبارك بمتابعة الأحداث السياسية من الستينيات عبر إذاعة صوت العرب فقط على رغم أنها كانت لا تنقل إلا جزءاً يسيراً من الحقيقة!
وبالعودة إلى الدولار وشؤونه مرة أخرى، أقول: إن معظم التوقعات التي تناولت سقوط عصر الدولار بدأت تحديداً عام 1995 ووصلت ذروتها عام 1999، وفي عام 2002 بدأت الأزمة تخرج إلى العلن بقوة وحتى لا أبتعد كثيراً، أفضل البدء من مؤتمر وزراء مالية مجموعة الدول الثماني عام 2003، حيث أكد وزير المالية الأمريكي أن بلاده "لا تزال تنتهج سياسة الدولار القوي".
على أن التجربة الواقعية بعيداً عن ذلك، فقد أثبت أن مضمون الدولار القوي قد تغير تماماً، ولم تعد قوة الدولار تحددها سعر صرفه في مقابل العملات الأخرى الرئيسة في السوق، إنما تدخلت عوامل جديدة تستند إلى حجم وثقة تداول الدولار في العالم.
وهذا يعني بالنسبة إلى المحللين الماليين، أنها تتم من خلال إحصائياتM3 للخزانة الأمريكية، وبحسب آخر إحصائية اطلعت عليها، توضح هبوط تداول الدولار عالمياً من 70 في المائة عام 1999 لتصل إلى 50 في المائة عام 2002، في حين ارتفع تداول اليورو إلى 39 في المائة خلال الفترة نفسها، وبقي يتذبذب في حدود هذه النسبة 39 - 30 في المائة حتى نهاية عام 2005.
تحولت أمريكا من دولة "الفائض: إلى "العجز" المستمر، واستنفد الرئيس جورج بوش في أقل من ثلاث سنوات كل الفائض المالي الذي حققته إدارة الرئيس كلينتون في أربع سنوات 256 مليار دولار، وبلغ العجز المالي 455 مليار دولار.
لذلك المشكلة أكثر تعقيداً في السنوات المقبلة، فالرئيس بوش أكثر إصراراً على انتهاج سياسة "تعزيز التسلح ومحاربة الإرهاب وفرض واقع الشرق الأوسط الجديد"، ما يعني مزيداً من الإنفاق، إذ وعد بوش في عام 2004 بزيادة النفقات الدفاعية، وعلى الرغم من أن خبراء الاقتصاد والمحللين الاقتصاديين الأمريكيين حذروا من "الكارثة" الاقتصادية المقبلة، إلا أن الإدارة الأمريكية استمرت في الدعاية المفرطة لما يسمى "متانة الاقتصاد الأمريكي"، مما مهد عملياً لدخول الاقتصاد الأمريكي مرحلة الفقاعات، ما لبثت أن انفجرت في سوق الأوراق المالية بنسبة 40 في المائة من أسعارها الحقيقية. ومع تلاشي بعض الفقاعات الإعلامية عن الاقتصاد الأمريكي، انخفض مؤشر "ناسداك" 50 في المائة، ومؤشر "داو جونز" أكثر من 30 في المائة، وبالتالي انخفضت أسعار سوق الأوراق المالية أكثر من أربعة آلاف مليار دولار.
هذه الانخفاضات جعلت ثروة المستثمرين تنكمش، وانعكس ذلك في زعزعة ثقة المستهلكين، وحاولت الإدارة الأمريكية تدارك الوضع، باللجوء إلى سعر الفائدة، وارتفاعه أكثر من 17 مرة منذ عام 2001، ولم يحدث تغيير، بل على العكس، تسببت هذه السياسة في هروب الاستثمارات الأجنبية ومغادرتها السوق الأمريكية، وزاد الوضع تدهوراً حينما تعرض الدولار لهزة قوية في سعر سوق الصرف، على خلفية انتقال الاستثمارات الأجنبية، ما أدى إلى انزعاجهم بسبب خسائرهم فقد اشترى العديد منهم في سوق بورصة الولايات المتحدة حين كانت في أوجها عامي 1999 و2000، ووجدوا أنفسهم في النهاية وقد اضطروا للبيع بتخفيضات حادة بعد الانهيار الذي شهده عام 2001. ومع ذلك لم يحقق الاقتصاد الأمريكي سوى ارتفاع 11. في المائة في الربع الأخير من عام 2005 وهو المعدل الأبطأ له منذ ثلاثة أعوام.
لذلك من الطبيعي أن ينعكس موقف الدولار على العملات الأخرى، فكان اليورو أول الرابحين، وارتفاعه كان نتيجة طبيعية للاستقرار الذي شهدته منطقة اليورو، ما يعني أن قوته ليست بسبب قوة الاقتصاد الأوروبي، إنما بسبب تباطؤ الاقتصاد وارتفاع العجز في أمريكا.
وعلى مدى السنين القليلة الماضية تحول اليورو إلى منافس رئيسي للدولار على مستويين الأول يتمثل في الاقتصاد العالمي والثاني كاحتياطي نقدي، فاليورو ارتفع تقريباً بنسبة 34 في المائة مقابل الدولار من بداية إطلاقه عام 2000. وتبعاً لذلك لم تجد إدارة بوش سوى خفض قيمة الدولار في أسواق الصرف، لحفز التصدير وزيادة فرص العمل وزيادة العرض ودفع الطلب الفعال لتحقيق النمو الاقتصادي.
لكن السؤال إلى أي حد إذاً قد يستمر الدولار في الهبوط؟
معظم توقعات المحللين، أن الدولار سيواصل الهبوط بنسبة 15 في المائة أخرى إذا ما كان للعجز التجاري في الولايات المتحدة أن يعود نحو التوازن من جديد. ويقول المحللون، من سوء الحظ هناك خطر حقيقي ما زال قائماً، فقد نرى عكس هذه التوقعات مع ارتفاع قيمة اليورو لتصبح 1.5 دولاراً أو أكثر، وقد تحاول الحكومات أن تقاوم هبوط الدولار، ولكن في عالم اليوم، حيث أسواق رأس المال التي تتسم بالعمق والمرونة، فلن تنجح تلك الحكومات في هذا إلى ما لا نهاية، وحتى في آسيا.
وفي اعتقادي، أنه وعلى الرغم من أن سياسة أمريكا تجعل الجميع يبدون في هيئة طيبة في الوقت الحالي، فقد لا تظل الأمور إلى هذا الحد إذا ما أدى انهيار الدولار إلى ارتفاع أسعار الفائدة على نحو هائل وتباطؤ الاقتصاد العالمي على نحو طويل الأمد.
وحتى إذا ما نجحت بعض الدول في تجنب آثار الضربة المباشرة لانهيار الدولار، فسيظل لزاماً عليها أن تتوقع آثاراً مرتدة، فأسعار الصرف تتسم بعادة سيئة تتمثل في تجاوز القيم التي تحقق لها التوازن، الأمر الذي يعني ارتداد هذه الآثار إلى نحو تلك الدول، وعلى الأخص تلك التي أسرفت في الإنفاق اعتماداً على تقديرات مبالغ فيها للدخل في الفترات المقبلة.
بالنسبة للسعودية وارتباط الريال خصوصاً، فإني أفضل أن أسوق رأياً آخر محايداً، وهو مقال للدكتور مقبل صالح أحمد الذكير، حيث ذكر "أن ارتباط سعر صرف الريال ارتباطا مباشراً بالدولار الأمريكي، قد يكون له مبرر مفهوم في الماضي، أما الآن فإنه يكلف الاقتصاد والناس كثيرا نظرا لأن كل هبوط في قيمته الضعيفة حالياً تجاه العملات القوية كاليورو والين الياباني، يجر معه ريالنا هبوطا مقابل هذه العملات، وهو ما يعني ضعفا في القوة الشرائية للريال مقابل تلك العملات، فتصبح السلع الأوروبية واليابانية أغلى في نظر المواطن السعودي. وبما أن نحو ثلثي وارداتنا يأتي من المنطقة الأوروبية واليابانية، فإن هبوط الدولار وثبات سعر صرف ريالنا تجاهه، يعنيان تقريبا أن ثلثي القوة الشرائية لدخول المواطنين السعوديين تجاه هذه السلع، قد تآكلت".
ويستمر الذكير شارحاً حقيقة الموقف ما بين الماضي والحاضر بقوله "إن ثبات سعر صرف الريال مقابل الدولار طوال السنوات السابقة، كان يعني ضريبة غير مباشرة يدفعها المواطنون السعوديون لصالح الحكومة ولصالح مصدري السلع الأجنبية غير الأمريكية للسوق السعودية، فهي ضريبة غير مباشرة من قبل الحكومة، لأن مؤسسة النقد العربي السعودي تستطيع عند سعر الصرف الحالي أن تصدر ريالات أكثر مقابل كل دولار يدخل خزانة الحكومة من إيرادات النفط، وقد كان هذا مفهوما عندما كانت إيرادات الدولة من عوائد النفط منخفضة وكانت هناك حاجة لتمويل عجز الموازنة الحكومية".
ويسلط الذكير الضوء على أمر مهم جداً، أعتبره المحك الحقيقي لكل الأطروحات الحالية حول موقف الدولار، ويقول: "بعد تحقق فوائض مالية كبيرة لخزانة الدولة، جاء الوقت لتخفيف العبء عن المواطنين تجاه أسعار المستوردات المرتفعة خصوصاً الأوروبية واليابانية منها، أما كون ثبات سعر صرف الريال بالدولار يعني ضريبة غير مباشرة لصالح المصدرين الأجانب، فذلك بسبب أن تدهور قيمة الدولار"ومن ثم الريال" مقابل العملات الأجنبية، ما يعني أن المواطنين السعوديين يدفعون أثمانا للسلع الأوروبية واليابانية أكثر مما تستحق عن لو عدل سعر صرف الريال بالدولار بما ينبغي أن يكون عليه الآن".
ختاما أطالب هيئة المحكمة الموقرة بدراسة مقالي الشيخ وهيب والدكتور مقبل وتنفيذ ما هو في الصالح العام الوطني "فما هو صالح للاقتصاد الأمريكي، ليس بالضرورة صالحاً لاقتصادنا الوطني، فسياسة سعر الخصم المنخفض التي كان يتبعها بنك الاحتياط الفيدرالي وارتبطت بها مؤسسة النقد العربي السعودي كانت ملائمة لظروف الاقتصاد الأمريكي ذي القاعدة الإنتاجية الضخمة، لكنها لم تكن مناسبة لاقتصادنا، بل العكس هو الصحيح، إذ أدت هذه السياسة في ظل العوائق الكبيرة التي تواجه المستثمرين المحليين إلى تدفق السيولة الكبيرة المتولدة من عوائد النفط للمضاربة في سوق الأسهم الخشاش".

<p><a href="mailto:[email protected]">Abdullahbinmahfouz@gmail.com</a></p>

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي