بيروت.. حوار بين جيلين!

<a href="mailto:[email protected]">alsaif@srmg.com</a>

قبل خمسة أعوام، بدأتْ علاقتي مع بيروت التي اعتدتُ زيارتها بين فترةٍ وأُخرى. وقبل ثلاثة أشهر، كان لقائي الأخير معها، حينما أمضيتُ فيها أياماً جميلات ومساءات عامرات. ولأنني من الجيل الذي لم يتعرف على بيروت ويتحسس معالم جسدها، إلا بعد أن اغتسلت من الجنابة – على رأي الشاعر غازي القصيبي- وغسلتْ معها العار الذي لحقها طيلة خمسة عشر عاماً، ولأنني أيضاً قد ظننتُ – واهماً- أن صفحات لبنان الحرب قد استودعها اللبنانيون التاريخ، وفتحوا صفحات لبنان الحب والوئام والسلام، وأن بيروت ستكون (أكسجين) العالم العربي، المعبأ بالغازات الخانقة، كما يقول عبد الرحمن البطحي، الذي غادرنا قبل أيام! ولرغبتي في (لبننة) شيء من ثقافتي ومعرفتي عن هذا البلد، فقد عكفتُ خلال وجودي في بيروت على قراءة عدد من الكتب، التي تناولت تاريخ لبنان، طيلة القرن العشرين، منذُ أن بدأت حركات المقاومة ضد الأتراك في لبنان من أجل استقلالها عن التبعية العثمانية مقابل التبعية الفرنسية، مروراً بقراءة الوضع اللبناني تحت الوصاية الفرنسية وحركات المقاومة القومية السورية، وما تلا ذلك من إعلان للدستور اللبناني. ووقوفاً على (الاستقلال) الذي تمّ بعد مغادرة القوات الفرنسية، والتي لم تغادر إلا بعد أن شرّعت قوانين "المحاصصة الطائفية". ومضيتُ في قراءاتي نحو أشهر الاغتيالات السياسية في لبنان، والذي كان الرئيس الحريري آخرهم. وانتهيتُ إلى آخر كتاب صدر عن دار النهار يخص لبنان وهو كتاب "مقاهي بيروت الشعبية". وقد أجهدتُ نفسي قراءةً فيما يخص الحرب الأهلية التي قضت على لبنان وعلى اللبنانيين، فهجّرت العقول والرساميل، وبقيت بيروت مسكناً للذل والعار.
في تلك الأيام التي قضيتها في بيروت، دعاني الصديق العزيز عبد الرحمن بن عبد اللطيف العيسى إلى جولة مسائية في بيروت جمعت بين جغرافيا بيروت وتاريخها. وتحدث لي السيد العيسى عن الوضع في لبنان قبل أكثر من خمسين عاماً، حينما حلّ بها طالباً في مدرسة المقاصد الإسلامية، ثم حينما اعتاد زيارتها كل صيف طيلة الخمسينيات والستينات وإلى أن قامت حربها الأهلية.
كان يقول لي أنظر إلى هذا المسرح الخَرِب ما زال شاهداً على الدمار! وهنا كان يتساقط قتلى الميليشيات المتصارعة، ثم عرّج في حديثه على شارع الحمراء ومقاهيه في الستينيات، وكيف آل وضعه؟ وكان سعيداً بعودة السلام إلى لبنان وانتعاشها اقتصادياً وعودة المهاجرين إليها.
حديث طويل عن لبنان أمضيناه في ليلتنا تلك، التي افترقنا فيها على أمل أن نلتقي في بيروت في شهر تموز (يوليو)! وها هو تموز (يوليو) يوشك أن ينصرم دون أن نلتقي، ولا أعتقد أننا سنلتقي في بيروت، فدون تموز (يوليو) أحاديث وأحداث!
ما دار في بيروت هو حوار بين شخصين سعوديين، كثيراً ما يتكرر، وهما من جيلين مختلفين، جيل تعرّف على (بيروت الخمسينيات والستينيات)، فتولّع بها وأحبها وعشقَ ضفافها وجبالها، لكنه هُجّر إلى أقاصي الدنيا. وجيل آخر لم يتعرف إلا على (بيروت 2000 ) التي نهضت واستفاقت وقامت على قدميها، شابةً ممشوقة القوام، بعد أن أجهدتها الحروب والصراعات. هذا الجيل هو الآخر لم ينعم بعدُ في بيروت، فهاهو الآن يُهجّر، بعد أن طارت أسرابه البيضاء من على مرتفعات الشوف ومن على ضفاف خلجان لبنان، إلى أماكن هي ليست من اختياره! ومهما نأى أو نعُم بمقامه أو مهجره، فلن يجد بعد بيروت البديلا! وهو التحدي الذي طرحه الشاعر نزار قباني، بعد أن اشتعلت الحرب الأهلية، فهاجر عُشاق بيروت إلى الشرق والغرب، فكان السؤال الكبير:

آهِ يا عُشاق بيروت القُدامى هل وجدتم بعد بيروت البديلا؟!

والسؤال: ترى هل سأضطر بعد عقدٍ أو أكثر، لأصحب أحداً من الجيل الذي لن يتعرف على بيروت إلا بعد استفاقتها- إن استفاقت- لأقول له: هنا كان حسن نصر الله يزبد ويرعد، وهنا نُحرت بيروت على يديه؟!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي