كيف يتم دفع اليهود للهجرة إلى إسرائيل؟
<a href="mailto:[email protected]">drashwan59@yahoo.com</a>
عندما بدأت الهجرة اليهودية الكثيفة من مختلف مناطق وجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق فور انهياره عام 1991 ظهرت عدة دراسات وأبحاث عربية حول هذه الهجرة الأكبر في تاريخ الدولة العبرية منذ قيامها ومدى تأثيرها في مسارها ومسار الصراع العربي ـ الإسرائيلي عموماً وشقه الفلسطيني خصوصاً. وقد ركزت معظم تلك الدراسات والأبحاث على أحد جوانب تلك الهجرة وهو ذلك المتعلق بمصبها نهائي، أي الدولة العبرية، ومدى تأثيرها في تركيبها السكاني وما أضافته إليها من قدرات بشرية وعلمية جديدة وما خلقته في داخلها من مشكلات جديدة تتعلق بدمج هؤلاء المهاجرين فيها. وكالعادة غاب عن معظم تلك الدراسات والأبحاث بقية جوانب قضية هجرة اليهود السوفيات خصوصاً واليهود عموماً إلى إسرائيل، وأبرزها ذلك المتعلق بمنبع تلك الهجرة، أو حقيقة أوضاع اليهود في مجتمعاتهم الأصلية قبل هجرتهم منها إلى إسرائيل. كما غاب عن تلك الدراسات والأبحاث بعد آخر مهم يرتبط بطبيعة الأسباب والدوافع التي أدت إلى قرار كثير من الأفراد والجماعات اليهودية الهجرة إلى إسرائيل.
والحقيقة أنه على الرغم من أهمية دراسة آثار الهجرة اليهودية على الدولة العبرية وما تضيفه إليها من قدرات وما تحمله لها من مشكلات، فإن التعامل السياسي بعيد الأمد مع تلك الهجرة يستلزم التركيز على معرفة حقيقة البعدين المشار إليهما سابقاً إضافة إلى تلك الآثار. فكثير من الدراسات الغربية الرائدة في ذلك المجال تشير إلى أن هناك اهتماما دائما من قيادات المؤتمر الصهيوني العالمي ومختلف أجهزة الدولة العبرية بهذين البعدين، حيث يتم التلاعب بهما من أجل دفع مختلف الجاليات اليهودية في العام للهجرة إليها. وفي هذا السياق تؤكد نتائج تلك الدراسات أن الجهود الصهيونية والإسرائيلية تسعى دوماً إلى هذا التلاعب عبر مدخلين رئيسيين يدفعان في النهاية كثيراً من يهود العالم نحو اتخاذ قرار الهجرة إلى الدولة العبرية.
المدخل الأول مزدوج التركيب، حيث يعتمد أولاً على مقولة الاضطهاد التي يشيعها اليهود عن أنفسهم عبرالتاريخ في جميع مجتمعات "الأغيار" التي يعيشون فيها. وفي هذا الإطار تسعى الدوائر المسؤولة عن تشجيع الهجرة اليهودية سواء في الدولة العبرية أو المؤتمر الصهيوني العالمي إلى إقناع مختلف الجاليات اليهودية في العالم بأنهم يعانون في البلدان والمجتمعات التي يعيشون فيها صورا مختلفة للاضطهاد يتم في كثير من الأحيان اختلاقها أو المبالغة فيها، وذلك بهدف دفعهم إلى مغادرتها والهجرة إلى إسرائيل. وهنا يأتي البعد الثاني لذلك المدخل الأول، وهو تقديم صورة الدولة العبرية باعتبارها ليست فقط "أرض المعاد" حسب الوعد الإلهي المزعوم لليهود، ولكن أيضاً باعتبارها "أرض الخلاص" لكل اليهود من الاضطهاد الذي يعانونه جيلاً بعد آخر في مختلف البلدان التي يقيمون بها حسبما يتم ترويج هذه المقولة. وبقدر إلحاح ومهارة المسؤولين عن الهجرة اليهودية في إسرائيل والمؤتمر الصهيوني في التلاعب بهذين البعدين لذلك المدخل المزدوج، بقدر ما ينجحون في دفع شرائح عديدة من مختلف الجاليات اليهودية للهجرة إلى الدولة العبرية.
ويتمثل المدخل الثاني الرئيسي لتشجيع هذه الهجرة اليهودية في إعادة صياغة تواريخ اليهود في العالم وتقديمها لمختلف الجاليات اليهودية باعتبارها "تاريخاً" واحداً لشعب واحد يرتبط ببعضه بصورة وثيقة عبر مراحل ذلك التاريخ الواحد. وهنا يظهر المثال البارز لتطبيق هذا المدخل في حالة اليهود السوفيات، حيث حظي تاريخ اليهود في بولندا والمناطق التي كان يضمها الاتحاد السوفياتي السابق، وبخاصة روسيا، باهتمام كبير من دارسي اليهودية والتاريخ اليهودي. والملاحظة الأولى على الكتابات التي تناولت هذا التاريخ هي أن الأغلبية الساحقة من القائمين بها، وخاصة ذوي الثقافة الأنجلو ـ ساكسون، هم من اليهود على اختلاف أصولهم وجنسياتهم. وقد انعكس ذلك في الطريقة التي عولج بها تاريخ اليهود في روسيا وبولندا، حيث اتسمت تلك المعالجة على تنوع مناهجها ومقترباتها وأدواتها البحثية بخاصتين رئيسيتين: الأولى هي محاولة وضع وإقحام تاريخ اليهود الروس والبولنديين ضمن التاريخ العام والعالمي لتطور اليهودية منذ نشأتها. ولما كانت مراحل طويلة ومهمة من ذلك التاريخ الأخير لا تعبر عن وقائع حقيقية ومؤكدة، فقد تمت الاستعاضة عن التيقن والإثبات بخلق تصورات وأساطير حول تلك المراحل، ومن ثم تشكيل تصور مسبق جاهز لهذا التاريخ اليهودي العام. وقد وضحت ذات الآلية في معالجة المؤرخين اليهود لمراحل عديدة من تاريخ يهود روسيا وبولندا، فقد أدت رغبة هؤلاء المؤرخين في ملء الفجوات العديدة ، سواء في داخل تاريخ اليهود الروس البولنديين أو بين هذا التاريخ والتاريخ اليهودي العام، إلى لجوئهم إلى المنهجية شبه الأسطورية ذاتها وإلى قراءة وقائع ذلك التاريخ الفرعي وفقا للتصور الجاهز المسبق للتاريخ اليهودي العام الموحد. ولا تبتعد الخاصية الثانية كثيرا عن السابقة، فوفقا للتصور اليهودي الجاهز المسبق الذي لا يرى في التاريخ العام الموحد المزعوم لليهودية سوى تاريخ لشتات اليهود واضطهاد موجه إليهم من الأغيار، فقد جاء التأريخ المكتوب والمفترض أنه علمي ليكون مجرد امتداد معمق لهذه القراءة الجامدة المركزية. ولم تخرج محاولات تأريخ اليهودية الروسية والبولندية من قبل المؤرخين اليهود عن حدود تلك الرؤية، وهذه القراءة، وهكذا، فوراء تاريخ الاضطهاد ليهود روسيا وبولندا غابت كثير من الحقائق والوقائع ـ بل والمراحل ـ التي وجد هؤلاء المؤرخون أنها تتناقض أو تنفي تلك القراءة لهذا التاريخ الذي يريدونه تاريخاً موجداً للشتات والاضطهاد.
لقد نجحت الدولة العبرية والمؤتمر الصهيوني في تهجير ملايين اليهود إلى إسرائيل ليقدموا لها مزيداً من الطاقات البشرية والمادية والعلمية التي تستخدمها في عدوانها المتواصل على الشعب الفلسطيني والشعوب العربية الأخرى المجاورة لها، فقط لأنهم تصرفوا باعتبارهم إرادة واحدة تسعى من أجل مصلحة واحدة حتى لوكانت العنصرية والعدوان هما صفتيها الرئيسيتين.