الأهداف الحقيقية للاجتياح الإسرائيلي
<a href="mailto:[email protected]">drashwan59@yahoo.com</a>
حين ينشر هذا المقال لا أحد يعرف بدقة ماذا ستكون عليه الأوضاع في الأراضي الفلسطينية, خاصة في قطاع غزة أو داخل الدولة العبرية نفسها. فقبل ساعات قليلة من إتمام كتابة تلك السطور كان الاجتياح الإسرائيلي الواسع لقطاع غزة قد بدأ بحثاً عن الجندي الإسرائيلي الذي قامت فصائل من المقاومة الفلسطينية بأسره في عملية عسكرية معقدة رأى فيها معظم الخبراء والمحللين أنها شديدة التميز والدقة. وكما هي العادة الإسرائيلية، فقد بدأ الاجتياح الغاشم بتدمير البنية التحتية الفقيرة التي امتلكها الفلسطينيون بعد مشقة, فقصفت الطائرات الحربية محطة الكهرباء الرئيسية في القطاع وعدد من الجسور التي تربط بين أطرافه, فضلاً عن خط رئيسي للمياه. وجرياً على العادة نفسها، حلقت الطائرات الحربية الإسرائيلية والطائرات المروحية طوال الليل فوق الأحياء المكتظة بالسكان كاسرة حاجز الصوت لكي تنشر الرعب في نفوس المدنيين وتدفع بهم إلى الفرار من بيوتهم لكي يتركوا أبناءهم من مقاتلي فصائل المقاومة وحدهم في مواجهة الاجتياح الإسرائيلي.
وبينما سيمضي هذا الاجتياح الذي خطط له قادة تل أبيب السياسيون والعسكريون منذ وقت يبدو أنه أبعد بكثير من أسر الجندي الإسرائيلي، فإن كل خطوة ستخطوها المدرعات والآليات والطائرات والقوات الإسرائيلية في داخل قطاع غزة ستحطم مع ما ستدمره من منازل وتقتله من أبرياء ما تبقى من آمال ضعيفة في استئناف المفاوضات السلمية بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي. ولا شك في هذا الإطار أن تلك الآمال قد بدت على وشك التلاشي النهائي بعد انتخاب حكومة حماس وبعدها حكومة الائتلاف الإسرائيلية بقيادة حزب كاديما، وذلك من جراء التشدد الإسرائيلي المتصاعد منذ ذلك الوقت والحملة الإقليمية والدولية الواسعة التي قادتها الحكومة الإسرائيلية لحصار الحكومة الفلسطينية المنتخبة ديمقراطياً وعزلها عن أي إمكانية للمشاركة في تفاوض جاد وحقيقي من أجل التوصل إلى حلول عادلة ومستقرة للقضية الفلسطينية والصراع مع الدولة العبرية. ولا شك أيضاً أن أطرافاً فلسطينية داخلية – وأخرى عربية – قد تورطت وبدافع حسابات سياسية ضيقة دون قصد في معظم الأحيان وبعمد في أحيان أقل في حصار حكومة حماس الشرعية وعزلها عن القدرة على المشاركة في التفاوض، على الرغم من أن تلك الأطراف نفسها لا تمل من نقد حماس وحكومتها بحجة رفضها تلك المشاركة.
من هنا فالأرجح أن ذلك الاجتياح الجاري حالياً لا يهدف كما يزعم قادة إسرائيل السياسيون والعسكريون في تصريحاتهم العلنية إلى إطلاق سراح الجندي الأسير لدى قوى المقاومة الفلسطينية، بقدر ما يرمي إلى تحقيق أهداف أخرى أبعد بكثير من ذلك الهدف الذي يتم الترويج له إسرائيلياً في مختلف وسائل الإعلام. ولعل أبرز وأول تلك الأهداف الإسرائيلية غير بعيد عن هذا الهدف الإعلامي، حيث إن حكومة أولمرت سعت بكل السبل لكي تقدم العملية العسكرية النوعية التي نفذتها فصائل المقاومة الفلسطينية ضد موقع عسكري إسرائيلي وأسرت الجندي خلالها، باعتبارها عملية "إرهابية" نتج عنها "اختطاف شخص بريء" هو ذلك الجندي. ولكي يتم استكمال ذلك التوصيف الإعلامي المروج له إسرائيلياً، يأتي هذا الاجتياح العسكري الغاشم والواسع لكي يقدم للعالم باعتباره "عملية إنسانية" للإفراج عن ذلك "الشخص البريء" من أجل "إعادته إلى أسرته" بحسب التعبير الإسرائيلي المروج في كل وسائل الإعلام. ويشمل ذلك الهدف الأول هدفاً ثانياً مهما وهو استكمال الخلط الإسرائيلي المتعمد بين ما يمكن وصفه بأنه "الإرهاب" وبين "المقاومة المسلحة المشروعة" وإشاعته حول العالم، حيث إن "عملية الوهم المتبدد" التي نفذتها فصائل المقاومة الفلسطينية ينطبق عليها حرفياً التعريف الأخير فهي ضد موقع عسكري لقوات الاحتلال وليست ضد مدنيين أو في موقع مدني، إلا أن الهدف الإسرائيلي الثاني من اجتياح "أمطار الصيف" هو وضعها تحت التعريف الأول، بحيث يقبل العالم بعد ذلك توصيف كل عمليات المقاومة ضد قوات الاحتلال بأنها عمليات "إرهابية".
ويأتي بعد ذلك الهدف السياسي – الأمني الرئيسي لحكومة إسرائيل من اجتياح قطاع غزة، حيث يسعى أولمرت وشركاؤه إلى خلخلة مزيد من الأوضاع الفلسطينية الداخلية من تحت أقدام حكومة حماس سواء على الصعيد الشعبي أو على صعيد الفصائل الفلسطينية. فقد سعت إسرائيل منذ وصول حماس إلى الحكم إلى حصارها اقتصادياً وسياسياً من أجل خنق الشعب الفلسطيني الذي اختارها بملء إرادته، من أجل دفعه تحت وطأة الأوضاع المعيشية المتدهورة إلى التمرد عليها وإسقاطها من الحكم دون أن يتوافر بديل سياسي آخر لها يتمتع بالدعم الشعبي الفلسطيني. إذاً، فالهدف الإسرائيلي الرئيسي سواء من حصار الشعب الفلسطيني وحكومته المنتخبة أو من الاجتياح العسكري الجاري حالياً هو خلق حالة فوضى عارمة في الأراضي الفلسطينية, خاصة في قطاع غزة, بحيث يؤدي ذلك إلى تحقيق ثلاثة أهداف رئيسية بالنسبة إلى الدولة العبرية في المرحلة الراهنة: الأول هو التخلص من حركة حماس ومنهجها وبرنامجها السياسي في الحكم ووضعها بذلك خارج أي معادلة للتفاوض مع الطرف الإسرائيلي سواء في الوقت الراهن أو في المستقبل. ويتمثل الهدف الثاني في أن حالة الفوضى المتوقعة والمستهدفة إسرائيلياً ستؤكد الانطباع الذي يروج له الإسرائيليون بأن سبب امتناعهم عن التفاوض مع الفلسطينيين هو عدم وجود "شريك مسؤول" على الجانب الفلسطيني يمكن الحديث معه بجدية. وهنا يظهر الهدف الثالث المنطقي، وهو أن تضطلع إسرائيل بمهمة الحفاظ على الأمن في الأراضي الفلسطينية وبخاصة غزة سواء اتخذ ذلك صورة الاجتياحات الواسعة أو المحدودة أو اتخذ صورة عودة بعض القوات الإسرائيلية لمناطق محددة من القطاع، أو أي صورة أخرى يكون لإسرائيل وحدها الحق المطلق في تحديدها بما يحقق لها مصالحها الأمنية والسياسية.
إن حكومة تل أبيب لن تحرك آلافاً من جنودها ومئات من آلياتها ومدرعاتها وعشرات من طائراتها فقط من أجل تحرير جندي أسير لدى فصائل المقاومة الفلسطينية، فالأهداف الحقيقية أبعد من ذلك بكثير، وعلى الأرض فقط سوف يتحدد إذا ما كانت حكومة أولمرت ستنجح في تحقيق تلك الأهداف، أم أن المقاومة الباسلة المتوقعة للشعب الفلسطيني وكل فصائله التي دائماً ما يوحدها مثل ذلك العدوان سوف تقلب السحر على السحر وتضع الحكومة الإسرائيلية الائتلافية ورئيسها في مأزق يندمون عليه.