بلاغ ملكي جلي: الوطن للجميع
<a href="mailto:[email protected]">dubyani@aleqt.com</a>
عندما يتحدث الزعيم – أي زعيم – فهو بالقطع يعني ما يقول ويقصد بالتحديد العبارات التي يختار, وعلى مدى التاريخ كثيرا ما كانت خطابات الزعماء لوائح تفسيرية لدساتير بلادهم أو منهجا جديدا يحدث تغييرا في سياسة دولهم. وعندما يتحدث عبد الله بن عبد العزيز فلا يستثنى من كونه زعيما يختار المكان والزمان لخطابه, ويستحضر أيضا جاهزية المتلقي (الشعب) لهذا الخطاب ومدى الحاجة إليه.
لهذا كانت كلمة الملك في حفل أهالي القصيم, والتي كانت محطته الثالثة في زيارته للمناطق, ضافية مستهدفة الشعب بأكمله لا فئة دون أخرى, رفض فيها بالقطع التصنيف الذي استشرى في أوساط المجتمع في الفترة الأخيرة, وأعلن موقفه صراحة بأنه لن يسمح بالتشكيك في وطنية أي شخص ما لم يثبت ذلك بالدليل القاطع.
الخطاب الملكي كما هو واضح لا ينفي حق الإنسان في اختيار الفكر الذي يريد والنهج الحياتي الذي يرغب (وليس المعتقد), والرفض الذي عناه هو التصنيف الذي يمس المواطنة, فالوطن للجميع, لا تنفرد به فئة دون أخرى ولا يملك الحق المطلق فيه فكر دون سواه, فالحقيقة الثابتة التي يجب أن يستند إليها المواطن هي وحدة الوطن, وهي الأمر الذي قاله الملك في خطابه: "أمران لا يمكن التهاون فيهما العقيدة ووحدة الوطن, لكن هناك بعض الأمور التي تهدد وحدة الوطن هو تصنيف المواطنين إلى إسلامي متطرف وليبرالي وعلماني".
والخطاب الملكي لم يكن رأيا بقدر ما كان عنصرا في المشروع الإصلاحي الكبير لعبد الله بن عبد العزيز الذي تتقاسمه السياسة والاقتصاد والمجتمع كل حسب الحاجة ووفق متطلبات المرحلة. ولهذا تقرر تحويله إلى برنامج عمل للحكومة, على أن يكون للمجتمع دور في تنفيذ هذا البرنامج بالقبول من جهة والدفع به وتوسيع رقعته من جهة ثانية.
وإذا كانت التصنيفات قد تسربت من حيث ندري ولا ندري إلى مجتمعنا, فإن مسألة المواطنة هي الأخرى لم تسلم من الأدلجة من جهة والجهل من جهة أخرى و"التقوقع" والانغلاق من جهات أخرى.
فذلك مرشح لأحد المجالس البلدية, يصف منافسيه بأنهم علمانيون لا مكان لهم في بلادنا, والثاني كاتب رياضي لم يجد طريقا للدفاع عن لونه المفضل إلا أن يشكك في منتقدي عناصر المنتخب السعودي ويصفهم بعدم الوطنية, لأنهم اختلفوا معه حول العناصر التي ضمها الفريق, وكأنما "الوطنية" سلعة رخيصة يبتاعها الشخص من حيث يريد. وهذا الأخير – فيما يبدو - لم يألف الاختلاف ويعتقد أن ثمة حقيقة مطلقة حتى في التفاصيل الدقيقة, وهو من هذا المبدأ يزج عن جهل بالوطنية حيث يضيق بها المكان ويتضاءل هدفها السامي.
الوطنية مسؤولية يلتقي فيها الحاكم والمحكومون على اختلاف مشاربهم, الحاكم يكون وطنيا عندما يرعى مصالح شعبه وبلاده في جوانبها السياسية والجغرافية, بحيث ينقل المهمة إلى الذي يأتي بعده والدولة كاملة السيادة موفورة الخير والأمن والاستقرار وتكون قراراته في الوقت نفسه مراعية حقوق الأجيال المقبلة, والمحكومون يساندون هذه الإجراءات ويحفظون دولتهم مع إضافة ابتكارات لحاضرهم وللأجيال المقبلة في مناحي الاقتصاد والاجتماع: تلك هي الوطنية "الحية", بمفهومها البسيط. أما الشعور الوطني فهو حالة وجدانية خاصة تتجلى داخل الفرد حتى ذلك الذي لا يملك قرارا ولا ابتكارا لصالح وطنه. فالذين يشككون في وطنية البعض ويخلطون بين "الحيوية" و"الشعور الوطني"؟ فإنهم في الغالب يضيقون بالوطنية ويضعونها إلى حدود مصالحهم.
الوطن لا يمكن حشره في زاوية ضيقة من الاجتهاد الشخصي التجاري أو الثقافي أو الفقهي لأن تلك يوازيها اجتهادات أخرى أكثر رحابة ومرونة وقبولا للمتغير دون المساس بالثوابت.
مجلس الوزراء في جلسته الأولى التي أعقبت الجولة الملكية, خلص إلى أن خطابات الملك في المناطق أكدت الآتي: أن المملكة دولة الإسلام، ومن ثم فلا يمكن التساهل فيما يخص الشريعة الإسلامية، أن اعتزاز المملكة بخدمة الحرمين الشريفين لا يعادله اعتزاز بأي إنجاز أو مجد آخر، وأن المملكة تحمل الخير لمواطنيها ولأشقائها ولأصدقائها وللبشرية جمعاء، وهي الدولة التي لا تفرق بين منطقة ومنطقة، وبين مواطن ومواطن، فكل ذرة من تراب الوطن غالية وكل مواطن عزيز، واقتصادها قائم على حسن استثمار ما حباها الله به من ثروات، وتعظيم المردود منها لما فيه خير الوطن والمواطن، حاضرا ومستقبلا، إضافة إلى أن التنمية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية جهد مشترك، وعلى جميع مؤسسات المجتمع وأفراده المشاركة فيه والعمل من أجله.
إن هذه الرؤية التي تقرر تحويلها إلى برنامج عمل للحكومة, تتطلب قرارات تنفيذية من الأجهزة الحكومية حتى لا ينتهي بها المطاف إلى الملفات المغلقة, ويصيبها ما أصاب توصيات الحوار الوطني التي لا حس ولا خبر عنها!!