Author

الحالة الفلسطينية

|
<a href="mailto:[email protected]">[email protected]</a> أذكر في سن الشباب حينما كنا طلابا أجانب ندرس في جامعات الولايات المتحدة الأمريكية لم يكن لنا هم ولا قضية إلا القضية الفلسطينية. كانت القضية الفلسطنينية دائما قضية ساخنة في أذهاننا. كنا لا نفوت أي خبر يتعلق بفلسطين أو الفلسطينيين وقضيتهم وكانت قراءاتنا تكاد كلها تنصب في هذا الاتجاه. كل تبرعاتنا وخطاباتنا ونشاطاتنا وحفلاتنا الطلابية وليالينا العربية وخناقاتنا التي لا تنقطع في بلاد العم سام كانت من أجل عيون العمة فلسطين، والبعض منا نسوا أهلهم وأوطانهم لكن القضية الفلسطينية ظلت عالقة في أذهانهم، لم تمحُها لا الغربة ولا الاغتراب. إنها القضية أم القضايا التي شكلت مفاهيم الالتزام القومي والوعي السياسي والحس الوطني والخطاب الثوري لمعظم، إن لم يكن كل الأجيال العربية في النصف الثاني من القرن العشرين. إنها لا تزال الموضوع المفضل لكتّاب الأعمدة والمقالات الأسبوعية ورسام الكاريكاتير في كل الصحف والمجلات العربية. ولا تكاد تخلو نشرة أخبار عربية من خبر عن فلسطين، عدا القصائد والأغاني والأناشيد المدرسية. لقد سقط الكثير من الشهداء المخلصين الأبرار من أجل القضية، من الفلسطينيين وغير الفلسطينيين، وعانى الكثيرون ويلات الحبس والتعذيب والحرمان، من الفلسطينيين وغير الفلسطينيين، وهذا ليس بكثير، فلسطين تستاهل أكثر. هذا وإن لم تعدم القضية بعض المزايدين والمتاجرين. جميع الثورات والانقلابات وحركات "التصحيح" التي شهدها العالم العربي كانت تتخذ من القضية الفلسطينية، صدقا أو بهتانا، مطية لها. كم من الطغاة والدكتاتوريين المستبدين والإرهابيين استغلوا تعلق الشعوب العربية وجدانيا بالقضية فحولوها إلى سلم للوصول إلى مآربهم وتحقيق أطماعهم وترويج مخططاتهم لأنهم يعرفون أنها حصان رابح في سباقهم على السلطة! إذا كنت زعيما وتدنت شعبيتك السياسية فما عليك لترفع رصيدك الشعبي إلا أن تطعّم خطاباتك بإشارات للقضية والتضحية من أجلها. وهذا واحد من التداعيات السلبية العديدة لبقاء القضية هكذا معلقة بدون حل، فهو يجعل منها وقودا لا ينضب للديماغوجيين والمتهورين والمتطرفين. لا أذكر أن يوما مر في حياتي، وأتصور أن هذا حال الكثيرين غيري، دون أن ترد على بالي قضية فلسطين ومأساة الشعب الفلسطيني. لقد استثمرنا، كأفراد، الكثير من الوقت والجهد والأعصاب في سبيل القضية، إضافة إلى ما أنفقناه ماديا، ولا أقصد هنا التبرعات فقط بل أقصد أن الكثيرين منا دافعهم الأول مثلا لشراء الراديو والتلفزيون والصحف والمجلات كان أساسا لمتابعة أخبار القضية. لا يزال الغالبية منا يتسمرون أمام الشاشة حينما يرد خبر عن فلسطين. إلى هذا الحد تتغلغل القضية في الوجدان العربي والعقل العربي. العرب كلهم ينتظرون حلا عادلا لقضية فلسطين حتى تصفو أذهانهم ويتفرغون لبقية شؤونهم ويلتفتون لقضاياهم الأخرى التي جمدوها حتى يتم البت في هذه المسألة. لقد أوقفنا عجلة الزمن وثبّتنا حركة التاريخ وأبقينا كل قضية من قضايانا الأخرى معلقة ننتظر حتى نحسم أم القضايا. إنها مأساة كبرى تختزل الضعف العربي والتخلف العربي والتشرذم العربي. فليس لدينا من العلم والسلاح والتقنية ما نستطيع به مواجهة إسرائيل، وليس لدينا من البصيرة السياسية والحكمة وبعد النظر ما نستطيع به مجاراتها في التخطيط والمناورات الدبلوماسية على مسرح السياسة الدولية، وتمنعنا أنانيتا وضعف إرادتنا ووهن عزيمتنا من توحيد صفوفنا وتغليب المصلحة الكبرى على المصالح الفردية الصغيرة والفطرية الضيقة. ولست بحاجة إلى الإطالة في شرح وتعداد مظاهر التخلف العربي فقد كثر تكرارها حتى مجّتها الأسماع وأصابتنا بالغثيان. لقد ضيع العرب والفلسطينيون فرصا كثيرة لحل القضية وكان بالإمكان حلها منذ زمن لو أننا حكمنا العقل بدل العاطفة وغلبنا الحكمة في استثمار الفرص السانحة وتعاملنا مع القضية بمنهجية وموضوعية. ومعلوم أن العرب لا أحد يجاريهم في إهدار الفرص، فهم يحتلون المركز الأول بين شعوب العالم في هذا المضمار. لم يعد الحل يحتمل التأجيل، فالعرب لن يتمكنوا من تجاوز محنهم وأزماتهم الخانقة والانطلاق نحو التحديث والتطوير ما لم يقفلوا هذا الملف. هذا نزيف لا بد من إيقافه ليسترد الجسم العربي عافيته وعنفوانه وليسترد العقل العربي توازنه وتنطلق إبداعاته وتتفجر طاقاته. إنها عقدة العقد التي لو تمكنا من حلها لسهل علينا حل بقية العقد التي تعوق نمونا وتقدمنا وتقف في طريق نهضتنا وتحررنا. ولكن كيف الخروج من هذا المأزق، كيف نمسك بزمام المبادرة ليصبح مفتاح الحل في أيدينا بدلا من أن يكون في قبضة عدو لا يرحم؟ أزمة العرب والفلسطينيين أنهم حصروا الصراع مع إسرائيل في الجانب العسكري، الذي نحن فيه الأضعف، وأهملوا بقية الجوانب. إذا كانت إسرائيل قد استطاعت هزيمة الجيوش العربية فكيف للفلسطينيين العزل أن يتغلبوا عليها عسكريا؟ إسرائيل يقف معها الغرب بأسلحته الفتاكة وتقنياته المتقدمة بينما لا يقف مع الفلسطينيين إلا العرب والمسلمون الذين يشترون سلاحهم ويستعيرون تدريبهم العسكري وعقيدتهم القتالية من الغرب. ألا ترون خلل المعادلة؟ ثقافة العنف التي ورثناها من ماضينا العشائري أسقطت من حساباتنا ثقافة السلام ورسخت في أذهاننا الاعتقاد بأن النزاعات تحل في ساحة الوغى بعيدا عن الساحات الأخرى، كالساحة الدبلوماسية والإعلامية والحضارية. ليست الحرب هي التي ستنهي الوجود الإسرائيلي، السلام هو الذي سينهي الوجود الإسرائيلي. استبعاد الخيار العسكري بطبيعة الحال لا يعني استبعاد خيار المقاومة، لكن المقاومة لا بد أن تكون مقاومة رشيدة وعقلانية ومنضبطة لتكون فعالة ومؤثرة وتأتي بنتائج إيجابية. لا بد أن تكون عمليات المقاومة من النوع المبهر إعلاميا، من النوع الذي يلفت الأنظار لشجاعة المنفذين أو لدقة التخطيط أو لمناسبة التوقيت أو لعمق الاختراق، وبالتالي يلهب الخيال ويدعو للإعجاب. ما يمكن إلحاقه بالعدو من خسائر مادية وبشرية جراء عمليات المقاومة لا يمكن أن يصل إلى الحجم الذي يحقق نصرا لنا وهزيمة لهم. المكاسب التي يمكن جنيها من هذه العمليات ليست مكاسب ميدانية، إنها مكاسب إعلامية في المقام الأول، لذا لا بد أن تدار حركة المقاومة على هذا الأساس. ينبغي لعمليات المقاومة ألا تكون عمليات ارتجالية أو فردية يقصد منها إراقة الدماء وإزهاق الأرواح فقط من أجل أخذ الثأر أو "فش الخلق"، فردود الفعل الدولية لمثل هذا النهج من المقاومة ينسف عدالة القضية ويدمر بعدها الأخلاقي والإنساني. أما الخطابات النارية وفوضى السلاح والانفلات الأمني وخروج الملثمين على شاشات الفضائيات يلوحون برشاشاتهم فإن أضرار هذه المشاهد والسلوكيات أكثر بكثير من أي منفعة محتملة. ولا يقل ضررا عن ذلك إطلاق صواريخ محلية الصنع كفاءتها لا تتعدى كفاءة الألعاب النارية لتجلب على الناس البسطاء والأبرياء مغبة الانتقام الوحشي من الآلية العسكرية الإسرائيلية التي لا تعرف الرحمة. هذه الممارسات تحول المقاومة إلى ما يشبه العبث والفوضى. المقاومة لها عدة أشكال، منها وليس أقلها أهمية المقاومة السلمية والدبلوماسية، وهذه هي الورقة الأقوى في أيدي الفلسطينيين لكنهم مع الأسف لا يلعبونها باحتراف لأنهم أهملوها وأعطوا الأولية للمقاومة المسلحة التي هي ورقتهم الأضعف. الفلسطينيون ليسوا بحاجة إلى ملثمين يلوحون بالكاتيوشا ويطلقون تصريحات لامسؤولة. إنهم بحاجة إلى واجهات حضارية وإنسانية وإلى أن يفسحوا المجال ويتيحوا الفرصة لمتحدثين لبقين عقلاء يتحدثون بلغة العصر ويعرفون كيف يعرضون قضيتهم أمام الرأي العام العالمي بأسلوب متحضر من أمثال حنان عشراوي ومصطفى البرغوثي وعزمي بشارة وإلى مفكرين من عيار إدوارد سعيد وسري نسيبة وشعراء على شاكلة محمود درويش وسميح القاسم، ومن هم على مستواهم في التفكير والمنطق والإبداع. أطراف معادلة النجاح متوافرة لدى الفلسطينيين لكنها مبعثرة وتحتاج إلى تجميع وإعادة ترتيب. فحركة "فتح" حققت اختراقات دبلوماسية ونجاحات إعلامية لا بأس بها في سياستها الخارجية لكنها فشلت داخليا بسبب ما تعاني منه من فساد مالي وإداري. وحركة حماس نجحت في سياستها الداخلية بسبب ما تقدمه للشعب الفلسطيني من إعانات وخدمات لكنها فشلت على الصعيد الإعلامي وعلى صعيد السياسة الخارجية بسبب نهجها الديماغوجي المتطرف. حتى المبادرة العربية التي طرحها الملك عبد الله في قمة بيروت والتي تمثل الحد الأعلى الذي يمكن للعرب الحصول عليه لم تتحمس لها "حماس". فلو تخلت "حماس" عن تطرفها و"فتح" عن فسادها وحدث نوع من التكامل بين سياسة "فتح" الخارجية وسياسة "حماس" الداخلية، إضافة إلى جرعة من النظرة الواقعية التي تتبنّي سياسة الأخذ بالممكن والتخلي عن المستحيل، لأمكن حل القضية الفلسطينية ليتفرغ العرب لمعالجة مشاكلهم الأخرى المتراكمة التي ألهتهم عنها مشكلة فلسطين.
إنشرها