إمكانية استغلال الجزر البحرية لإقامة المشاريع السياحية

<a href="mailto:[email protected]">f.albuainain@hotmail.com</a>

كانت سواحل المنطقة الشرقية في السبعينيات الميلادية، خاصة سواحل مدينة الجبيل البحرية، قبلة للمتنزهين الغربيين من العاملين في شركة أرامكو السعودية. لم يكن السعوديون حينها يعرفون معنى السياحة الداخلية المنظمة بسبب انشغالهم في طلب الرزق. الحياة قاسية ومصادر الدخل قليلة، والجميع منهمكون في توفير لقمة العيش الحلال. كانت الحياة بسيطة جدا، والأوضاع الاجتماعية متقاربة، هي أقرب إلى الفقر منها للغنى، والجميع قانعون برزقهم القليل، يعيشون في جو من الود والتراحم والتكاتف المشهود.
شيئا فشيئا بدأ المجتمع في التغير بسبب طفرة النفط. بدأت عجلة الحضارة البدائية في التحرك البطيء. استمرت شركة أرامكو السعودية في نهجها التعليمي والتدريبي باللغة الإنجليزية للموظفين السعوديين. كان من الطبيعي أن يرى بعض كبار السن وهم يقرأون ويتحدثون الإنجليزية بطلاقة في وقت يعجزون فيه عن فك الحروف العربية! اللغة والعمل كانا مفتاح التواصل المثمر بين سكان المنطقة وموظفي أرامكو الغربيين، تجاوزوا بهما العمل الروتيني إلى مجالات الحياة الأخرى، وخصوصا الحياة الاجتماعية. كان الغربيون حرصاء على الاندماج في المجتمع والتنقل بين الصحارى القاحلة والشواطئ الجميلة والتغلغل في القرى لاكتشاف ثقافة السكان والتعرف على آثارهم وأنماط حياتهم المعيشية. عشقوا البحر وألفوا المجتمع فألفهم على الرغم من فارق الثقافات. لم تنقطع رحلاتهم السياحية المنظمة عن الجزر البحرية والشواطئ الرملية. في بداية الثمانينيات الميلادية كنا نستمتع بمشاركتهم رحلاتهم البحرية إلى الجزر الرملية العذراء، تعلمنا منهم رياضتي الغطس والتزلج المائي، واحترام البيئة، والمحافظة على الكائنات البحرية وبالأخص الشعب المرجانية. تعلمنا الاستمتاع بالبيئة، واكتشفنا وجودها وهي التي كانت أمام أعيننا منذ أن عرفنا الحياة. ذكريات جميلة، ومشاهد لا تنسى، وانطلاقة لم تكن تسمح بالتمييز بين الغرب والشرق.
لم يكن الغربيون ليفارقوا كاميراتهم لحظة واحدة، فهي أهم لديهم من قوارير المياه. يسجلون رحلاتهم ومشاهداتهم بطريقة عجيبة، لا تخلو أحيانا من الخبث والمكيدة!. أذكر أنني استخدمت اسم "الجبيل" في أحد أجهزة البحث الخاصة بإحدى المكتبات الغربية فقادني البحث إلى اسم كتاب مصور وجدت فيه مجموعة من الصور النادرة لمواقع أثرية وشخصيات وسواحل جميلة التقطت قبل أكثر من 50 عاما. كان من ضمن ما رأيت سواحل مدينة الجبيل العذراء وصور أخرى للجبل البحري الذي كان متنزها طبيعيا لسكان المنطقة الشرقية. حاولت أن أربط ما أرى بواقع الحال فكدت أن أقع من الحزن والأسى على ما أصاب تلك السواحل من تدمير وتغيير للهوية. اختفى الجبل البحري بعد أن دفن البحر من حوله، وكذلك الساحل الشمالي بأكمله، أما الجزء المتبقي من الساحل الشرقي، أو ما يطلق عليه الأهالي تجاوزا " الكورنيش " فقد أصبح منطقة محظورة يمنع المتنزهون من ارتيادها أو الاستمتاع بها دون سبب مقنع!!. كان الغربيون أكثر معرفة منا بالسياحة، وأعمق فهما لقيمة السواحل والشطآن البحرية، ولعلهم أرادوا أن يسجلوا للتاريخ كيف تعامل السعوديون مع النعم التي وهبهم الله إياها من خلال الصور التي لا تعرف الخداع أبدا. تحولت السواحل والشطآن العذراء إلى مبان خرسانية وشباك معدنية وطرق داخلية، المحظور منها أكثر من المتاح للمتنزهين وعاشقي الطبيعة العذراء.
كان للثقافة الرسمية السائدة الدور الأكبر في تشويه البيئة، وحرمان المدينة الساحلية من أهم مقوماتها السياحية. وهو ما دفع أحد الغربيين إلى كتابة مقالة حادة في إحدى الصحف الأمريكية آنذاك عن " أساليب تدمير البيئة " أشار فيها بوضوح إلى ردم السواحل واستغلالها لغير ما وجدت له.
لم تكن الفرصة مواتية لخلق أنشطة سياحية متطورة مع وجود الثقافة القاتلة للطبيعة، إضافة لانتشار الأفكار الرافضة لقبول السياحة كصناعة يمكن لها أن تشكل قطاعا يعتمد عليه في دعم الاقتصاد الوطني، وتنمية المناطق، وتوفير فرص العمل للمواطنين, أليس من الغريب فعلا أن تكون ثقافة المجتمع في السبعينيات الميلادية أكثر تقدما ورقيا وفهما لواقع الحال من وقتنا الحالي!.
في تلك الحقبة الزمنية، شكلت السياحة البحرية مصدر رزق ثابتا ومرتفعا نسبيا للسكان، فالجبيل كانت تمثل نقطة التجمع والانطلاقة نحو الجزر البحرية المنتشرة في الخليج. كان الميناء الصغير يعج بالسياح الغربيين الراغبين في زيارة الجزر البحرية خلال أيام العطل الأسبوعية. تشكلت مجموعات من الشباب لتنظيم الرحلات البحرية مدفوعة الأجر. كانوا يقومون بأدوار مكاتب السفريات ومنظمي الرحلات، قبل أن يدركوا معناها الحقيقي. استطاعات تلك المجموعات أن تحقق دخلا مجزيا من عمليات تنظيم الرحلات أسوة بأصحاب السفن. دون مبالغة، كانت هناك وفود من الطلاب والطالبات الغربيين تأتي للمنطقة من أجل زيارة الأهل في عطلات الصيف واضعة في اعتبارها رؤية تلك الجزر والسواحل العذراء والاستمتاع بالشمس والبحر والرمال الناعمة. كان من الطبيعي جدا أن تتكرر الزيارات السياحية لأعوام متتالية من أولئك الطلاب والطالبات. كانوا مجتمعين يمثلون دخلا لا يستهان به للمدينة الصغيرة ولملاك السفن، وواجهة حضارية للسياحة الداخلية وجسرا لتبادل الثقافات.
على الرغم من الطلب المتنامي على السياحة البحرية، في ذلك الوقت، إلا أن المنطقة لم تستغل، بل تركت لاجتهادات المجتهدين ما أثر سلبا في تميزها السابق، وأضعف من جاذبيتها، وأطفأ في داخل المتنزهين الرغبة الجامحة في الاستمتاع بها. كان الأمر أشبه بوأد الفرص الاستثمارية، وقتل الإبداع، وتجاهل كل ما من شأنه تنمية المنطقة سياحيا. تركت المناطق الطبيعية لمواجهة مصيرها المحتوم، وتوجهت الأنظار نحو المناطق الأكثر تكلفة والأقل تميزا.
إهمال الجزر البحرية لم يفقدها أهميتها السياحية، ولم يلغها من الخريطة، فالجزر البحرية مازالت موجودة، ومنتشرة في المياه الإقليمية السعودية، وهناك جزيرتان على الخليج العربي مهيأتان للعب دور الجزر السياحية الأولى، وهما جزيرتا "جريد" و"جنا" اللتان تبعدان بما يقارب 25 كيلو مترا عن مدينة الجبيل. الجزيرتان تمتلكان كل مقومات النجاح السياحي، وهما في حاجة إلى تطوير وتجهيز من أجل تحويلهما إلى جزر سياحية متطورة بمواصفات عالمية. يمكن تطوير هذه الجزر، وجزر أخرى من خلال إنشاء شركة مساهمة سياحية متخصصة تهتم بتأهيلها حسب المواصفات العالمية. لماذا نصر على الاستثمار في شرم الشيخ، ودبي والبحرين، ونتناسى وطننا الغالي؟
لكل منطقة من مناطق المملكة ميزتها الطبيعية الخاصة، ومفتاح النجاح يبدأ من اكتشاف الطبيعة ومقوماتها، ثم العمل على استغلالها الاستغلال الأمثل كما هي دون تغيير من خلال توفير الخدمات والمتطلبات اللازمة لمرتاديها لتكون عامل جذب حقيقيا للسائحين. مدينة الجبيل، إضافة لأهميتها الصناعية، فإنها تمثل فرصة حقيقية لبناء المشاريع السياحية البحرية غير التقليدية من خلال استغلال الجزر سياحيا وتحقيق هدف تحول السياحة البحرية من أنشطة تعتمد على الاجتهادات الفردية إلى صناعة حقيقية يمكن لها أن تضيف الكثير للمنطقة، والاقتصاد الوطني.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي