هل تقودنا ثقافة التدبيلة إلى التفليسة؟

<a href="mailto:[email protected]">Abdalaziz3000@hotmail.com</a>

هناك قصة شعبية حقيقية يتداولها كبار العمر عندما يرون أن أحد أبنائهم يأبى العمل إلا بعائد كبير "غير معقول"، هذه القصة تقول إن عامل بناء (الاستاد) متميز بجهده ودقته وسرعة إنجازه كان يتقاضى أجرا يتساوى مع أقرانه أو يفوقهم بقليل وهو راض بذلك ويعمل وينتج ويكسب يوميا وفي المقابل يحصل من يستأجره لبناء منزله على عمل مميز بسعر معقول.
وتقول القصة إنه في يوم من الأيام جاء أحد أثرياء القرية وعرض عليه ضعف الأجر مقابل أن يتفرغ لبناء منزله، وهذا ما كان، وحينما انتهى العمل مع هذا الثري عاد العامل المتميز إلى السوق لكنه لم يجد عملا، لأنه لا يريد أن يعمل إلا بالأجر الذي تقاضاه من الثري، وهكذا عمل الآخرون الأقل كفاءة وقعد من هو أكثر كفاءة دون عمل بسبب ثقافة التدبيلة "ضعف الأجر" التي قادته للتفليسة.
قاتل الله ثقافة التدبيلة، فهي ثقافة كارثية تقود صاحبها إلى التفليسة، كما أنها تضخم الأسعار على المستهلكين، بما يلحق الضرر بالاقتصاد الوطني كمحصلة، ولكن من الذي أشاع ثقافة التدبيلة في المجتمع السعودي؟ وهل يمكن أن يتعافى أفراد المجتمع السعودي من هذا الداء؟ وكيف لنا أن نساعدهم على الشفاء من هذا المرض المهلك؟
ثقافة التدبيلة انطلقت شرارتها في الطفرة الاقتصادية الأولى، وكانت سوق العقار هي الحاضن الرئيسي لهذه الثقافة، إذ تضاعفت أسعار العقارات بشكل كبير في مدد وجيزة مما أدى إلى شيوع تلك الثقافة، خاصة إذا علمنا أن القطاع العقاري قطاع كبير يكاد يتعامل به معظم السكان في ذلك الوقت بطريقة أو بأخرى.
ومما عزز ثقافة التدبيلة في تلك الأيام " كأسباب ثانوية" القروض الكبيرة التي قدمتها البنوك التنموية الزراعية والصناعية وغيرها للمواطنين بشروط ميسرة إضافة للدعم الذي تلقاه هؤلاء حماية وتشجعا بشكل أدى لتضاعف أموالهم بشكل كبير دون مجهودات كبيرة تتناسب وحجم الإيرادات.

ونتيجة للركود والكساد الذي عانى منه الاقتصاد السعودي نتيجة انخفاض أسعار النفط والحروب التي دارت في المنطقة وما ترتب عليها من تكاليف تحملتها المملكة، بدأت ثقافة التدبيلة في التلاشي حيث عاد الناس إلى أعمالهم الأصلية ورضوا بالأرباح المنطقية، نعم فنقص السيولة أدى إلى رضا رجال الأعمال بالأرباح المعقولة وإلا قلت مبيعاتهم وبارت بضاعتهم.
وبفضل من الله سبحانه وتعالى عادت أسعار النفط للتحليق عاليا مما أوجد سيولة كبيرة أضيفت للسيولة العائدة بعد أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر)، هذه السيولة لم تجد قنوات استثمارية تستوعبها لعدم جاهزية القطاعات الاقتصادية على استيعابها لأسباب كثيرة، فلم تجد أمامها إلا سوق الأسهم خاصة بعدما علقت المساهمات العقارية! التي كانت تستوعب جزءا من هذه السيولة.
فماذا فعلت هذه السيولة التي عززتها البنوك بالقروض الاستهلاكية والتسهيلات لتزيد الطين بلة، رفعت الغث والسمين في سوق تعاني من ضحالة في عدد الأسهم المتداولة، مما جعل أي مواطن يضع أي مبلغ في أي سهم ويصبر عليه برهة من الزمن يجد أن رأس ماله قد تدبل مرة أو مرتين أو أكثر، ولم يقف الأمر عند هذا، بل إن آثار التدبيلات الحاصلة في سوق الأسهم انعكست على السوق الأولية "الاكتتابات القليلة" حيث أصبح في حكم اليقين أن من يكتتب بـ 50 ريال سيبيع بستة أضعاف إلى ثمانية عشر ضعف كما حصل في "ينساب".
إذن ثقافة التدبيلة نشأت ابتداء في السوق العقارية ثم انهارت في التسعينيات بسبب الكساد الاقتصادي، وعادت بقوة في بداية 2003 م ولكن من خلال سوق الأسهم وها نحن نعاني منها حتى اليوم، حيث صرفت الناس عن أعمالهم ( كما صرفت عامل البناء في القصة الشعبية التي ذكرناها في بداية المقالة)، نعم باع الكثير من الناس مصادر رزقهم التي أسسوها وبنوها لسنوات طويلة بهدف التدبيلة فكانت النتيجة تفليسة عانى منها العديد منذ شباط (فبراير) 2006، وهناك الكثير من القصص المحزنة التي تثبت ذلك وكلنا نسمع بها هنا وهناك.
المحزن أن ثقافة التدبيلة رغم الانهيار الشديد مازالت معششة في أذهان الكثير مما أدى بهم للمزيد من الخسائر بعد تعافي السوق مرة أخرى حيث اشتروا بأسعار عالية نسبيا ولم يبيعوا رغم ما حققوه من أرباح انتظارا لمضاعفة رؤوس أموالهم، ولكن السوق خالفتهم وعادت مرة أخرى ليفقدوا الأرباح التي حققوها وجزءا من رأس المال لتزداد المعاناة مرة أخرى.
ثقافة التدبيلة يمكن القضاء عليها إذا رفعنا درجة وعي المواطنين الاستثمارية ليتعرفوا على أن أنواع الاستثمارات والعوائد المتوقعة لكل نوع من هذه الأنواع حسب نسبة المخاطرة في هذا الاستثمار، وليعرفوا أن هذه العوائد المنطقية هي الأصل، وأن مضاعفة رؤوس الأموال في سنة أو أقل هي حالات استثنائية تنشأ عن دورة اقتصادية لا يمكن لها أن تستمر بحال من الأحوال ليعودوا إلى رشدهم بما يحقق الخير لهم وللوطن، نعم فالاستثمار الرصين حسب الأعراف العالمية يعطي عائدا يراوح بين العشرة والعشرين في المائة سنويا وكلما زاد على ذلك زاد احتمال الخسارة بنسبة وتناسب، فربح أعلى يعني مخاطرة أعلى، ولعل التدبيلة هي أكبر المخاطرات كون 100 في المائة رغبة في الربح تعني 100 في المائة احتمال خسارة ولكل المال لا قدر الله!
ختاما أعتقد أنه يجب معالجة ثقافة التدبيلة، وأعتقد أن هيئة السوق المالية والمؤسسات المالية والغرف التجارية والمؤسسات الإعلامية الحكومية والخاصة إضافة لوزارة التربية عليهم بذل الجهود المنسقة والمتكاملة للقضاء على تلك الثقافة برفع درجة الوعي الاستثماري عموما وفي الأسواق المالية على وجه الخصوص.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي